الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

المفكران التونسيان خيرالدين التونسي والطاهر الحداد


المفكران التونسيان خيرالدين التونسي والطاهر الحداد:وزير البحر والنقابي المؤسس نصير المرأة


الأهالي : 27 - 01 - 2011



يحفظ تاريخ الفكر التونسي الحديث مكانين بارزين لعلمين من أعلام النهضة التونسية و«العربية» الحديثة، هما: خيرالدين التونسي، الذي قدم مساهمته الإصلاحية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والطاهر الحداد، الذي قدم مساهمته الإصلاحية في النصف الأول من القرن العشرين.ولد خيرالدين التونسي عام 1820 بقرية في جبال القوقاز، كعبد مملوك ينتمي لقبيلة أباظة ببلاد الشركس بجنوب غرب القوقاز، لينتهي به المطاف في قصر باي تونس وهو في السابعة عشرة من عمره، فأصبح مملوكا لأحمد باشا باي، فأحسن تربيته وتعليمه، كان نابها وحاد الذكاء ففاز بالمراكز العسكرية، حتي عين «وزير البحر» عام 1857، فقام بالعديد من الإصلاحات في الموانئ والإدارة والجيش البحري، وأصبح رئيسا لمجلس الشوري 1861، ثم دفعه الفساد المستشري في الوضع السياسي إلي الاستقالة والتفرغ للتأمل والفكر، حتي أنتج كتابه الأساسي «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» (1868).
في هذا الكتاب أرجع خيرالدين التونسي الانحطاط الذي آلت إليه الحضارة الإسلامية إلي نظام الحكم المطلق الذي عملت به الدول الإسلامية منذ القرون الوسطي، وهو في ذلك يتفق مع عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد».
وقد وصف المستشرق الألماني هايزيش فون مالتزان كتاب «أقوم المسالك» بأنه «أهم ما ألف في الشرق»، كما وصف التونسي نفسه بأنه تفادي اتخاذ وجهة النظر الأوروبية وتبني منذ البداية التصور الإسلامي، لأنه بدون هذا المنظور الإسلامي لن يلقي مشروعه صدي عند أبناء قومه المتمسكين بعقيدتهم الدينية.
وهكذا كانت نظرته للنهوض مبنية علي الفهم الواسع الرحب للإسلام، وقدرة الإسلام الحق علي التجاوب مع مجريات العصر وتقدم العمران، مثلما كانت نظرة أقرانه في المشرق ومصر، كرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وكما لم يقتصر الطهطاوي علي دوره الفكري، بل مد هذا الدور إلي إصلاحات تعليمية وإدارية واجتماعية، كذلك فعل التونسي حينما عمل علي وضع قوانين مجلس الشوري ومقاومة الحكم الاستبدادي وضبط القوانين والاتفاقيات مع الأجانب لحفظ الأراضي التونسية من الضياع، وكما تأثر الطهطاوي بالفكر الحديث أثناء إقامته بباريس إماما للبعثة العلمية، كذلك أقام التونسي بباريس عدة سنوات تشرب خلالها تأثيرات الفكر الديمقراطي، كالحرية والمساواة والإخاء، بدون أن يتخلي عن أرضيته الإسلامية، ولا عن إيمانه بأن الإسلام قادر علي مجاراة العصور الحديثة.
ومثلما رأي محمد عبده في مصر أن «الإسلام دين العلم والمدنية»، رأي التونسي أن «استبداد الحكم المطلق» نظام غريب عن الإسلام، وأن الحضارة الإسلامية كانت زاهية مزدهرة حينما كانت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطي، والتخلف. وعلي الرغم من أن التونسي بلغ منصب الوزير الأكبر «رئيس الوزراء» ثم منصب الصدر الأعظم، لكنه استقال من كل هذه المناصب ليتفرغ لتقديم رؤية فكرية ضافية، لكنه كان قد قام بالعديد من الإنجازات والإصلاحات الإدارية مثل: إلغاء الضرائب السابقة، وإنشاء «المدرسة الصادقية» التي تقدم العلوم الحديثة واللغات الأجنبية، وتنظيم الدراسة بجامع الزيتونة، وإنشاء مكتبة «العبدلية» علي نمط المكتبات الحديثة، وتشجيع الطباعة، وتطوير الصحافة.
يتألف كتاب «أقوم المسالك» من مقدمة طويلة، وجزءين: يحوي الجزء الأول عشرين بابا، كل باب مخصص لبلد من البلاد الأوروبية، وتضم الأبواب فصولا تتضمن الحديث عن تاريخ البلد وجغرافيته وموقعه ومساحته وأهم ملوكه وتنظيماته الإدارية والسياسية والعسكرية، ويحتوي الجزء الثاني علي ستة أبواب، خمسة منها في جغرافية القارات الخمس والباب السادس للبحار.
لكن أهم ما في الكتاب هو مقدمته النظرية الفكرية الضافية «مثل مقدمة ابن خلدون» التي تتضمن رؤيته في سبل النهضة، ومثلما كانت رؤي رواد النهضة المشرقيين المجايلين والمعاصرين والمناظرين للتونسي «بدءا من الطهطاوي حتي الأفغاني ومحمد عبده» تتمحور حول الأخذ من أوروبا بما يدعم خصوصيتنا الإسلامية وما لا يتناقض مع ثوابتنا الثقافية والدينية، كانت كذلك رؤية التونسي تتمركز حول مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها، والتمسك بالجامعة الإسلامية لدعم هذه المقاومة.
وعلي ذلك فقد بني التونسي رؤيته الإصلاحية علي دعامتين كبيرتين: الدعامة الأولي هي التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وتقدم الأحوال والحوادث، وبما يتفق مع ثوابت الشريعة، والدعامة الثانية هي الأخذ بالعلوم الحديثة وأسباب العمران الأوروبية لأنها طريق التقدم والترقي، وذلك يتطلب عنده تأسيس الدولة علي ركني «الحرية والعدل» وهما - عنده - ركنان أصليان في الشريعة والحضارة الإسلاميتين.
وهو في مسألة الأخذ عن العمران الأوروبي يتفق مع قرينه في مصر، محمد عبده، الذي دعا إلي الأخذ من علوم الآخر، طالما كان نافعا لنا، مهما كان زمان هذا الآخر أو مكانه.
ونظام الحكم عند التونسي، بناء علي هذين الركنين، ينبغي أن يقوم علي المساواة بين الرعية واحترام حقوق المواطن الأساسية، من خلال «شوري» تتعدد فيها مؤسسات الحكم، بدون أن ينفرد به شخص مهما أوتي من كفاءة، لأن في الاستبداد بداية التفريط والانفراط، وهذا يعني أن التونسي كان مضادا لنظرية «المستبد العادل» التي شاع أنها نظرية الحكم الملائمة لبلاد الشرق.
وحينما توفي خيرالدين التونسي عام 1890، كان قد ترك ميراثا هائلا من الإصلاح والتنوير استهدي به الإصلاحيون بعده في المغرب العربي والشرق العربي علي السواء.
مؤرخ الحركة العمالية
«لقد سبق هذا الفتي قومه بقرنين»، هكذا وصف عميد الأدب العربي طه حسين المصلح التونسي الطاهر الحداد، بعد أن انتهي من قراءة كتبه. بعد تسع سنوات من وفاة خيرالدين التونسي ولد الطاهر الحداد عام 1899 «بعد عام واحد من دخول الحملة الفرنسية مصر»، ليتواصل مسار الإصلاح والتحديث في تونس، متواكبا مع مسار الإصلاح والتحديث العربي بعامة.
ولد الحداد بتونس العاصمة، وتعلم في جامع الزيتونة ثم عمل في وظائف بسيطة، والتحق بمدرسة الحقوق العليا التونسية، وصار يكتب في جرائد عديدة مثل «الأمة» و«مرشد الأمة» و«أفريقيا»، ثم شارك في تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي عام 1920، ثم شارك في تأسيس جامعة عموم العمل التونسي» 1924، وعلي الرغم من أن سلطات الاستعمار الفرنسي قد حلت هذه الجامعة «نقابة العمال» فإن الطاهر الحداد أرخ لتلك الحركة في كتابه الأشهر «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية» عام 1927، الذي صادرته سلطات الاستعمار الفرنسي!
هذا يعني أنه في الوقت الذي كانت تمور فيه مصر بثورة 1919 وبزعامة سعد زغلول وبدستور 1923 وأغنيات سيد درويش ونحت محمود مختار وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق، وكتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، كانت تونس تموج بفكر الطاهر الحداد وحركته الإصلاحية التنويرية «وشعر أبي القاسم الشابي»، الذي كتب عن إصلاح العائلة وتحرير المرأة «متواصلا في ذلك مع قاسم أمين في مصر» فهاجت عليه قوي التقليد والجمود والماضوية التونسية «مثلما فعلت مع نظرائه المصريين: قاسم أمين وعلي عبدالرازق وطه حسين»، فجردوه من شهادته العلمية ومنع من حق الزواج باعتباره مرتدا خارجا عن الملة، ومنع من العمل.
أما الكتابان اللذان أهاجا علي الحداد ثائرة السلفيين الأصوليين فهما كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، و«التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة»، في الكتاب الأول طالب بحرية المرأة وبخروجها للمشاركة في إنتاج المجتمع والعلم والعمل، وانتقد اختباءها خلف الحجاب والنقاب، وفي الكتاب الثاني طالب بالتعليم المدني المتصل بالعصر الحديث والعلوم الجديدة، وانتقد سيادة التعليم الديني وهيمنته وتحكم منهج «النقل» فيه علي حساب منهج «العقل».
ومثلما صدرت في مصر كتب ترد علي «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، صدرت في تونس كتب بأقلام السلفيين الجامدين تهاجم كتاب الطاهر الحداد، منها كتاب «الحداد علي امرأة الحداد» للشيخ محمد الصالح بن مراد، وكتاب «سيف الحق علي من لا يري الحق»، ومقالات من مثل: «حول زندقة الحداد» و«خرافة السفور» و«أين يصل غرور الملحدين؟»، وصدرت فتوي تكفير الرجل، أدت إلي انسحابه عن الحياة العامة حتي رحل عام 1935.
لكن هذا «النبي المجهول» أعيد إليه اعتباره بعد الاستقلال، حيث تحولت كلماته إلي قوانين ملزمة للأفراد والجماعات، وأطلق اسمه علي دور الثقافة والساحات العمومية، وألفت حوله الكتب العديدة التي توضح دوره في نهضة المغرب العربي كله، وكتب الصحفي الشهير الهادي العبيدي علي قبره: «هذا ضريح شهيد الحق والواجب المصلح الاجتماعي الطاهر الحداد».
وليس من شك في أن تقدم قوانين الأحوال الشخصية بالنسبة لأوضاع المرأة في تونس منذ عهد الحبيب بورقيبة يدين للطاهر الحداد، وكتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، وليس من شك كذلك في أن «الاتحاد العام للشغل» الذي يشارك في قيادة «ثورة الياسمين» الحالية في تونس يدين للدور النقابي التأسيسي للطاهر الحداد ولكتابه في تأريخ «الحركة النقابية العمالية في تونس.
صدق طه حسين، إذن، حينما قال عن الطاهر الحداد: «لقد سبق هذا الفتي قومه بقرنين».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق