الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

طه حسين «المبصر» واجه عاهات ثلاثاً


في الذكرى الثلاثين لرحيله .. والثمانين لمصادرة «في الشعر الجاهلي»
طه حسين «المبصر» واجه عاهات ثلاثاً
حلمي سالم
«إلق نظارتيك ما أنتَ أعمى / إنما نحن جوقة العميان»، كانت هذه الكلمات أحد أبيات قصيدة نزار قباني في رثاء عميد الأدب العربي طه حسين، نستعيدها اليوم لأننا نعيش ذكرى مزدوجة لطه حسين: ثلاثين سنة على رحيله (تشرين الأول - أكتوبر 1973) وكان بعد أيام من خطاب الرئيس أنور السادات الذي أعلن فيه انتهاء حرب تشرين الأول مع إسرائيل، واستعداده للذهاب إلى آخر الأرض، بما في ذلك تل أبيب، من أجل السلام، وثمانين سنة على مصادرة كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي» 1926، بعد أن ثارت عليه ثائرة السلفيين وشيوخ الأزهر الشريف. ونحن نحلق في سماء الذكرى والذاكرة، مع صاحب «حديث الأربعاء» لا بد من ذكر النقاط الخمس الآتية:
1- لم يكن طه حسين مجرد كاتب كبير، أو مفكر مستنير، أو باحث رائد، بل كان - فوق ذلك كله - ظاهرة اجتماعية ثقافية باهرة. وهي ظاهرة تلاقحت فيها الموهبة الفردية مع التقاليد الثقافية الأدبية، حسب فكرة إليوت، كما تلاقت فيها عوامل عدة مجتمعة في ضفيرة متجادلة موفقة: ظروف سياسية يبحث فيها المجتمع المصري (والعربي) عن هويته واستقلاله ونهضته، حياة جامعية ناشئة تسعى إلى تكديس البحث وتعميق «الروح الجامعي»، حياة ليبرالية تتعدد فيها الأحزاب والتيارات الكثيرة: الوطنية والقومية والدينية والغربية والشيوعية: قبل عامين من مصادرة «الشعر الجاهلي» تأسس الحزب الشيوعي المصري (1924) وبعد عامين ستنشأ جماعة الإخوان المسلمين (1928)، حلقات سابقة من المنورين العرب، منذ نصف القرن التاسع عشر حتى العقد الثاني من القرن العشرين: من مثل حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وسليم البستاني ومحمد عبده وجبران وعلي عبد الرازق، وأخيراً: طاقة فردية جبارة، وموهبة استثنائية، وطموح جارف لفتى قرر أن يهزم العاهات الثلاث: عاهة عماه الشخصي، وعاهة فقر أسرته، وعاهة تخلف المجتمع الأكبر: مصر.
2- جديرة بالتأمل والفحص تلك العلاقة الملتبسة الظاهرة بين طه حسين وأستاذه أبي العلاء المعري. فالمعري هو المثقف التراثي الوحيد الذي حظي من عناية طه حسين بأربعة كتب كاملة: صوت أبي العلاء، مع أبي العلاء في سجنه، تجديد ذكرى أبي العلاء، شرح لزوم ما لا يلزم.
وعندي أن ثمة أكثر من رابطة يمكن أن تجمع بين المعري وطه حسين: فمن ناحية: يصل بينهما أن كليهما حوّل «انعدام البصر» إلى «نفاذ بصيرة»، بما يتضمنه ذلك من الاستغناء عن «الرؤية» بـ «الرؤيا»، وما يستتبعه ذلك الاستغناء من تأكيد المعنى البسيط الذي يؤكد أن «النظر» الحق ليس هو «الشوف» الظاهري، بل هو «الإدراك» الداخلي القويم. ولعل تلك الحقيقة هي ما قصدها نزار قباني حين قال لطه حسين «ضوء عينيك أم هما نجمتان؟ كلهم لا يرى، وأنت تراني».
ومن ناحية ثانية: لا ريب أن نزعة الشك عند أبي العلاء قد لفتت نظر (أقصد: بصيرة) طه حسين، وهو المثقف الذي نقل إلى الثقافة العربية نظرية الشك الديكارتية. حتى أنه أقام عليها كتابة القنبلة «في الشعر الجاهلي». إن هذا القلق الفكري الجامع بين الرجلين هو الذي جعل طه حسين يقول عن نفسه «أنا رجل قلق، ومثير للقلق من حولي» وبهذا المنظور العقلي كان طه حسين يعيد لنفسه بين لحظة ولحظة - وهو يدرس الفكر الغربي والتراث العربي على السواء - سطور أبي العلاء المعري الباقية: «يرتجي الناس أن يقوم إمام / ناطق في الكتيبة الخرساء / كذب الظن، لا إمام سوى العقل / مشيراً في صبحه والمساء / إنما هذه المذاهب أسباب / لجذب الدنيا إلى الرؤساء».
ومن ناحية ثالثة: إن ما لاقاه أبو العلاء المعري من تعنت واضطهاد من أهل عصره، الذين رموه بالكفر والإلحاد والزندقة، كان قريناً لما لاقاه طه حسين من عنت واضطهاد من أهل عصره، مرة بسبب روايته «المعذبون في الأرض» (التي صودرت كذلك قبل 1952) ومرة بسبب رأيه في ضرورة إبعاد الصبغة الدينية عن دستور 1923، ومرة بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» ومرة بسبب كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي ربط فيه ثقافة مصر بثقافة حوض البحر المتوسط.
وبرغم هذه الروابط الثلاثة القوية بين المعري وطه حسين، فإن هناك فارقاً جوهرياً يفصل بين الرجلين، هذا الفارق هو أن طه حسين لم يكن «رهين المحبسين» كما كان المعري رهين المحبسين (العمى والمكان) ذلك أن طه لم يسجن نفسه في عماه ولا في مكانه، بل تحرر من قيد البصر وقيد المكان، ليضرب نموذجاً مرموقاً للمثقف المتفاعل المتحرك المنتج، على نحو يقربه من تصور المفكر الإيطالي انطونيو جرامشي عن «المثقف العضوي» الأمر الذي أنقذ طه حسين من الوقوع في هوة «الاغتراب» الوجودي أو الفكري عن المجتمع، مثلما حدث في حالة المعري، المنعزل، القانط، الذي صاح «تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد».
3- احتوى «في الشعر الجاهلي» ضمن ما احتوى - على فكرتين أساسيتين:
الأولى: هي أن كثيراً من «الشعر الجاهلي» قد يكون منتحلاً من قبل بعض أهل العصر الإسلامي وغرض الانتحال هو تبيان الفارق «النوعي» بين العصرين، من الخشونة إلى الليونة، ومن البداوة إلى الحضارة.
الثانية: هي أن القصص التاريخية في القرآن الكريم ليس الغرض منها «تأريخ الأحداث» كما وقعت بالفعل في التاريخ، بل غرضها «العبرة والموعظة والحكمة» وعلينا - من ثم - أن نلتمس التاريخ من كتب التاريخ، أما «أساطير الأولين» فرسالتها الرمز والمجاز والأمثولة.
وظني أن الأزهريين - زملاء طه حسين السابقين- غضبوا من هاتين الفكرتين اللتين لا تعضان في صحيح الإيمان ولا تخدشان الشرع المتفتح، لثلاثة أسباب: الأول هو أنهم مدرسيون يؤمنون بالنقل لا بالعقل، والرواية لا بالدراية، كما أنهم حرفيون معادون للاجتهاد، على نحو يجعلهم لا يفرقون في النص القرآني بين الحرفي والمجازي، أو بين الثابت والمتحول. والثاني هو الخشية من فقد سطوتهم على الناس باعتبارهم وكلاء الله على الأرض فإن إعمال العقل يبطل الحاجة إلى الوسطاء بين العبد والرب، والثالث هو خوف هؤلاء الحفظة من فقدان حظوتهم عند السلطة السياسية بتفسيراتهم الجامدة، الخامدة للسلطان، مما يمكن لهم السطوة الأدبية والمادية والروحية.
4- حفلت معركة طه حسين في كتاب «في الشعر الجاهلي» وما رافقها من مواقف ووقائع بمفارقات كثيرة، لكن أعجب هذه المفارقات وقوف بعض كبار «الليبراليين» من دعاة الحرية والاستقلال والوطنية ضد الكتاب وكاتبه، وكان المثال البارز في ذلك هو سعد زغلول: زعيم «الوفد» والأكثرية وثورة 1919 وتلميذ محمد عبده صاحب السهم الأوفر في مبدأ الاجتهاد، وفي مبدأ استجابة الإسلام للعلم والمدنية، وفي مبدأ عدم وجود «كهنوت» في الدين الإسلامي.
وبرر سعد زغلول ذلك الموقف بأن حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن، وحينما يتخلص الوطن من الاستعمار سنلتفت إلى حرية الفكر والبحث، فالحرية أولويات: بعضها الأهم يسبق بعضها الأقل أهمية!
وعندي أن هذه النظرة، التي اعتمدتها النخب السياسية والفكرية في مسيرة النهضة العربية الحديثة، والتي تفصل بين «حرية الوطن» و «حرية المواطن» ثم تعطي الأسبقية للأولى عن الثانية، هذه النظرة الضيقة هي واحدة من اخطر الآفات التي تسببت في الإخفاق المتواصل لحركة النهوض العربي الحديث. هذه النظرة المنحرفة القاصرة كانت مبدأ محمد علي، وكانت مبدأ عبد الناصر، ثم هي المبدأ الحالي لمعظم الأنظمة العربية الوطنية الحديثة.
تتجاهل هذه النظرة الأحادية أن لا حرية لوطن من دون حرية المواطن: حرية المواطن في الفكر والاعتقاد والبحث العلمي والانتماء السياسي والانتماء الديني. ذلك أن كلتا الحريتين وجه لعملة واحدة: تحرير الوطن والمواطن على السواء وطالما ظلت هذه النظرة الواحدية متحكمة في أداء النخبة السياسية والفكرية العربية، فإن حرية الوطن نفسها (التي أجلنا من اجلها حرية المواطن والفكر) ستظل معدومة أو مشوهة او منقوصة، فنكون قد خسرنا الحريتين معاً، لنصبح على ما فعلنا نادمين!.
5- نموذج طه حسين - من منظور حركة حقوق الإنسان - نموذج ساطع: بصرخته ضد الظلم والفقر والجهل في «دعاء الكروان» و «شجرة البؤس» و «أديب» وبصيحته «التعليم حق ضروري كالماء والهواء» قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) بعشر سنوات، وبدعوته إلى إعمال العقل في معظم بحوثه وكتبه، وبتأكيده على ضرورة تجديد اللغة العربية، لان اللغة في خدمة الإنسان وليس العكس، وبرفضه أن يفرق الدستور بين الناس على أساس النص أو الديانة أو العرق، لان ذلك يجرنا إلى الوراء، واستنكاره مصادرة الأدب، لأن «الفن اثر من آثار الأحرار، لا من آثار العبيد».
الحياة- 11/10/2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق