الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

ربع قرن على رحيل صاحب «مجنون إلسا» لويس أراغون


ربع قرن على رحيل صاحب «مجنون إلسا» لويس أراغون
حلمي سالم
«لو قدر لي أن أعيد حياتي، لسلكت نفس هذا الدرب» هكذا تحدث ذات يوم الشاعر الفرنسي لويس أراغون، الذي يحتفل العالم - هذه الأيام - بمرور ربع قرن على رحيله، الشاعر الذي سمعنا، حين رحيله، أن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران قطع إرسال التلفزيون الفرنسي ليقول: «أيها الفرنسيون، اليوم غربت شمسُ فرنسا، لقد مات أراغون».
ومثّل أراغون (1897 - 1982) لنا - نحن شباب الحركة الطلابية في أوائل السبعينات من القرن الفائت وشباب شعرائها - أسطورة من أساطير الغرام والنضال والأدب، فكان بحق (كما قالت أمينة رشيد، أستاذة الأدب الفرنسي) هو القرن بأكمله عاش كل مغامراته واكتشافاته وإحباطاته، رفض مع تريستان تزارا والدادية الأدب السائد واللغة المبرِّرة لمؤسسات المجتمع، ثم انضم إلى السريالية مع أندريه بريتون الذي جمعته به صداقة عميقة، وتجولا في شوارع باريس مكتشفين معاً الغريب وغير المتوقع في الحياة اليومية. ثم انفصل عنه لينضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. تعرف إلى إلزا تريوليه فأضاءت طريقة، ثم قاوم الفاشية في ألمانيا وإسبانيا، وقاوم الاحتلال النازي لفرنسا وباريس، وعاش بعد ذلك عند الانتصار ونهايات الحرب العالمية الثانية ومرارة الدروب المشتبكة. عاش التناقض بين وضعه السياسي المرموق كعضو لجنة مركزية للحزب وشاعريته الغامرة لحياته وشعره ونثره. عُرف في فرنسا والعالم كشاعر المقاومة الكبير، وكان ذلك بالفعل، لكنه أيضاً كان من أكبر شعراء فرنسا الحديثة.
في بداية السبعينات من القرن المنصرم، كان الشعراء الشباب المصريون - لا أتجاوز إذا قلتُ: والعرب - مبهورين بشعراء المقاومة الثورية في العالم وبشعراء السريالية - التي راحت تتسرب إلى وعينا الجمالي في بداياتنا آنذاك - وبشعراء الحب الجميل، لكنّ مأثرة أراغون تجلت في جمعه - يشبهه في ذلك بول ايلوار - بين هذه الأضلاع الثلاث، الحب والسريالية والثورة، في مثلث مركب متوهج واحد، كأنه كان يكتشف لنا وللعالم الجانب الثوري في السريالية، والجانب السريالي في الثورة، ثم يمزج كليهما بأسطورة حب كلاسيكية دائمة قل أن توجد عند السرياليين، وقل أن توجد عند الثوريين، بل قل أن توجد عند الشعراء. بهذا المثلث الملهم أهدانا أراغون حلاً سحرياً لمعضلات كانت مؤرقة لنا في صبانا الشعري غير الناضج.
لكن ما زاد من استلهامنا نموذج أراغون، ما عرفناه من رفضه احتلال فرنسا للجزائر، شأن كل الثوريين والوجوديين الفرنسيين، إذ كتب: «اسمعوا يا أخوة الجزائر، الطلقات تغني أنشودة الأمل»، وكذلك وقوفه إلى جانب أحرار إسبانيا في الحرب الأهلية الإسبانية 1937، إذ ترجم ديوان بابلو نيرودا «إسبانيا في القلب» الى الفرنسية وأهدى ترجمته الى الشهداء الذين سقطوا في الصراع ضد الفاشية.
وكان اطلاع أراغون على الثقافة الشرقية خيطاً من خيوط الأواصر التي جمعت العرب بأراغون، فأبدع ديوانه «مجنون إلسا» على غرار «مجنون ليلى» العربي. وفي ديوانه «عينا إلسا» تناثرت المفردات الشرقية الأندلسية (غرناطة أبو عبدالله، زبيدة، رثاء الأندلس، أبو القاسم، عائشة، الخوارج، المعتزلة، قيس)، والديوان كله يدور حول سقوط غرناطة الأندلسية العربية.
يقول أراغون إن بن بيللا دعاه لزيارة الجزائر بعد تحررها (1962)، وفي مطار اورلي راودته فكرة «مجنون إلسا» يقول: «أردتُ أن أشيد بهذا التحرر، لذلك تعمقت في الشعر العربي كما ترجمه مستشرقون من أمثال لويس ماسينيون، ودخلت في مجاهل الكتابة والعروض والنحو. لقد أعجبتني في شكل خاص الصوفية المشرقية، كما تبلورت في «مجنون ليلى»، حيث سطر الشاعر العذري هيامه بهذه المرأة المستحيلة هياماً يصل الى درجة العبادة».
كان أراغون تلميذاً متفوقاً، وقارئاً شغوفاً، وقد تأثر بوالدته التي وجهته الى قراءة الأدب الروسي. وعلى رغم استعداده الأدبي اتجه الى دراسة الطب، والتقى أندريه بريتون رائد السريالية (1915) وشاهد معه مولد الدادئية (1916) لكنّ اندلاع الحرب العالمية الأولى أوقف النشاط الأدبي، واضطر أراغون الى أن يخدم في صفوف الجيش الفرنسي كطبيب مجند، وبعد الحرب استأنف نشاطه الثقافي فأسس مع رفاقه مجلة «أدب» (1919) ثم المجلة السريالية.
كان أسلوب أراغون - كما تقول جوزين عثمان - متميزاً، تمتزج فيه التجربة التلقائية بالعنف الملحوظ في خطابه الشعري. تلك كانت فترة ازدهار الشعر السريالي على يد شعراء مثل: آرتو وبرتون وماكس جاكوب وايلوار وغيرهم، ورسامين مثل: بيكاسو وسلفادور دالي وماكس ارنست وغيرهم. لكن لقاءه بإلسا تريوليه عام 1928 كان الحدث الذي اخترق حياته، إذ ظلت ملهمته وزوجته ومعبودته حتى اختلطت ملامحها بملامح فرنسا: «سيأتي يوم يا إلسا/ تتجملين فيه بتاج أشعاري التي سوف تخلد من بعدي/ عندما ستتحلين بها سيفهمها الناس أكثر وأفضل/ على رغم تنوعها/ بفضل ذلك المذاق الذي يسبغه عليها شعرك المسترسل».
الواقعية الاشتراكية الجديدة
التحق بالحزب الشيوعي الفرنسي عام 1932. وحينما غزا الألمان فرنسا وباريس في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) كان أراغون نجماً من نجوم المقاومة السرية: بالشعر وبالرصاصة(وصف طويل من الشعراء المقاومين).
المأثرة الكبرى الأخرى لأراغون هي توسيعه لمفهوم «الواقعية الاشتراكية» ذلك المفهوم الذي كان وصل على أيدي كتاب ونقاد اشتراكيين الى صناديق حديد مغلقة، وطردت هذه الصناديق الضيقة المغلقة من جنة الواقعية الاشتراكية أدباء وفنانين رسموا للبشرية دروباً للخلاص والحرية والجمال.
وكان المثلث المتماسك المتوهج (بأضلاعه: الحب، والسريالية، والثورة) أكبر تجليات هذا الاتساع الرحيب في مفهوم «الواقعية الاشتراكية» عند أراغون. ثم بلغ هذا التجلي ذروة عالية بالمقدمة التي كتبها أراغون لكتاب روجيه غارودي «واقعية بلا ضفاف» الذي جعل إهاب الواقعية الرحب يتسع لبيكاسو وسان جون بيرس وكافكا وغيرهم من «منبوذي الصندوق الضيق».
اعتبر أراغون كتاب غارودي «حدثاً» (وكان كتاب غارودي كذلك مكوناً أساسياً من المكونات الثقافية والجمالية لجيل السبعينات المصري) ويوضح في مقدمته أنه يكتب هذا الكلام في وقت يضطر الذين ينسبون أنفسهم للماركسية الى غربلة كل «معتقداتهم» أي أفكارهم التي اعتبروها صحيحة لا تقبل الجدل، ثم يعلن: «لسنا في صدد مراجعة الماركسية، بل في صدد تنقيتها من الشوائب وتخليصها من التطبيق العقائدي الجامد، سواء في مجال التاريخ أو العلوم أو النقد الأدبي، ومن الحجج الدامغة والاستشهاد بالكتب «المقدسة» التي تكتم الأفواه وتجعل المناقشة مستحيلة».
ثم يقرر أراغون بوضوح: «إن الرفض الحاسم لكل ما هو ليس «واقعياً» في مفهوم العقائدية يؤدي الى تشويه الواقعية ويقلل من شأنها، كما يلقي - خصوصاً - ظلال الغموض على قضايا مستقبل الفن الأساسية، أي قضايا التراث الثقافي».
والحق، أن كتاب غارودي ومقدمة أراغون كانا - معاً - ضربة حاسمة في كسر الطوق المغلق للواقعية، باتجاه أحداث تحولات فلسفية بارزة، في ما كان يسمى «علم الجمال الماركسي» أو النظرة الواقعية للفن والأدب. لذلك كان الكتاب - بمتنه ومقدمته – «حدثاً» في مسار الرؤية التقدمية للفنون. وواضح أن تحطيم الأقفاص الحديد من أجل التحولات الفكرية الجياشة كان سمة الرجلين، فكلاهما غادر الحزب الشيوعي الفرنسي: غارودي بسبب ضيق الحزب بتقلباته الفكرية المستمرة، وأراغون بسبب ضيق الحزب بتوثباته الشعرية المحلقة، على رغم أنه كان قال عن حزبه: «إن حزبي أعاد إليّ قلبي وذاكرتي/ إن حزبي أعاد إليّ ألوان فرنسا». بعدها ذهب غارودي الى الإسلام، وذهب أراغون الى الشرق وقيس بن الملوح.
مضت عقود، وما زالت كلمات أراغون ترن في ضمير العصر الحديث: «أخذتُ نصيبي من المرارة/ وحملتُ حظي من الشقاء/ لم تنته هذه الحرب أبداً بالنسبة لي/ ما دامت أطراف شعبي ممزقة/ ألصق الأذن بالأرض:/ ما زالت تصل إلىّ تنهدات بعيدة مخيفة،/ تخترق لحم عالم أصم/ لا أعرف النوم/ وإذا أغمضت العين يوماً/ فإلى الأبد»
الحياة 27/09/2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق