الأحد، 16 أكتوبر 2011

محمد علي شمس الدين نجوم في المجرة

محمد علي شمس الدين نجوم في المجرة
حلمي سالم(مصر)
صدرت للشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين مختارات شعرية تحت عنوان "نجوم في مجرة" ضمن "سلسلة آفاق عربية" في القاهرة.
تتضمن المختارات عيّنات من مختلف أعمال شمس الدين، وتبرز في هذه البانوراما، التميزات التي حققها الشاعر، ومراحل انضاج تجربته الشعرية منذ السبعينات حتى اليوم.
الشاعر المصري حلمي سالم وضع المقدمة التي ننشرها كاملة.
مجرة الشعر
"زمن صليب/ يمشي/ ويحمله الجنوب. هذا شاعر من الجنوب، ارتفع بجنوبه (اللبناني) الى مستوى رمز العذاب، من عذاب الجنوب في لبنان، الى عذاب البلاد العربية، الى عذاب الإنسانية بأسرها.
عندما صدر الديوان الأول للشاعر الكبير محمد علي شمس الدين عام 1975، كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد بدأت تشعل نيرانها الحامية، وكانت الآلة العسكرية الصهيونية بدأت تولّي وجهها شطر جنوب لبنان، الذي كانت المقاومة الفلسطينية قد اتخذته ملاذاً بعد خروجها من الأردن عقب حرب أيلول الأسود 1970.
حينئذ نشأت ظاهرة شعر الجنوب اللبناني الوطني المقاوم، المقاوم للفصائل اليمينية في انقسام الحرب الأهلية اللبنانية، والمقاومة للآلة العسكرية الصهيونية التي راحت تترصد الفصائل الفلسطينية وحلفاءها من القوى الوطنية اللبنانية، وكانت ظاهرة شعر الجنوب اللبناني الوطني المقاوم متوازية أو متواكبة مع ظاهرة شعر المقاومة الفلسطينية في ذلك الحين، ولقد صبغت هذه النشأة الوطنية المقاومة شعر الجنوب اللبناني بنزعة خصوصية مميزة.
لكن البعض من شعراء الجنوب اللبناني المقاوم ـ وعلى رأسهم شاعرنا محمد علي شمس الدين ـ حلّق بشعره من جغرافيا الجنوب اللبناني الى جغرافيا العالم كله، ومن مأساة الإنسان الجنوبي الفرد الى مأساة الإنسان في كل مكان، فارتفع الجنوب اللبناني عن ذاته، وارتفع شعراؤه عن ذواتهم، وارتفعت القضية كلها الى سماء كونية شاملة (وهكذا فعل، أيضاً، بعض شعراء المقاومة الفلسطينية).
كان هذا الارتفاع هو الملمح الكبير الأول في تجربة محمد علي شمس الدين: الانطلاق من الخاص الى العام، الانطلاق من الجزئي الى الكلي، الانطلاق من الذات الى الموضوع، الانطلاق من الأنا الى الآخر.
ونلتقي بالملمح الكبير الثاني في تجربة شاعرنا، وهو التواصل الخصب مع التراث العربي، القديم والحديث: التراث الديني والتراث الشعري والتراث الأسطوري. كأن هناك حركة بندولية جدلية مع التراث: ذهاب الى التراث وعودة منه، أو مجيء التراث الى لحظتنا الراهنة، وفي الحالتين يغدو غير ما كان. ثمة "معلقة ثامنة" تتواصل أو تتكامل أو تتعارض مع المعلقات السبع القديمة، وثمة اللعب المعاصر مع بيت المتنبي الشهير "الليل والخيل والبيداء تعرفني"، وسنجد الإكليل المسيحي، وسنجد كربلاء (هل هناك تشابه بين كربلاء والجنوب اللبناني؟). وسنجد إنتاجاً معاصراً لقصة نوح والسفينة، فكأن الغرق خلاص وكأن النجاة مأزق.
وسنقذف في قلب مآسي ديك الجن وقيس وليلى وسالومي ويوحنا المعمدان وامرئ القيس، بمعالجات حداثية معاصرة.
والتراث، هنا، ليس التراث العربي أو الشرقي وحده، بل هو التراث الإنساني كله: (ألم نقل إن النصوص تنتقل من المحلي الى الكوني؟)، حيث الشاعر يستدعي الأشباه والنظائر له في الكون كله: لنجد لوركا بعرس الدم ورامبو بإشراقاته متجاورين مع جملة أحمد شوقي "ريم على القاع بين البان والعلم"، ونجد جوحان متجادلاً مع عكاز امرئ القيس وتأبط شراً، ونجد غرناطة متجاوبة مع حمص، ونجد نوح متواصلاً مع الرصاصة المعاصرة. هذه، إذن، إعادة أسطرة معاصرة للأساطير السابقة: أساطير الحب، وأساطير الشهادة، وأساطير العذاب.
ضمن إطار التواصل مع التراث القديم (والحديث) سنلاقي الملمح الكبير الثالث، في تجربة شاعرنا، وهو النزعة الصوفية الواضحة، التي أعلنها الشاعر بجلاء حين قال "لا أحب سوى العاشقين الحيارى وأحوالهم في الجنون العظيم". سنقابل الحلاج، ونقابل حافظ الشيرازي في "وقفة" كاملة، حيث الحياة "كالحرب تبدل مجروحاً بمجروح". وحيث لا خلاص إلا بالذات "ليكن دمي مأوى"، وحيث تمتزج في الصوفية الثورة والشهوة والكتابة، وحينئذ تصبح المعرفة قرينة الجرح، لأن "النوم على حد الرؤيا/كالنوم على حد السكين".
في هذه "الأحوال" يتجلى بهاء الحرف، أليست "الحروف أمة من الأمم" كما قال بن عربي؟. ولذا فإن "ميم" يحرث الآبار، وإن "الياء" تحمل مثواها". وهنا يصبح الشعر (الذي هو ابن الحروف أو أبوها) تراجيديا كاملة إذ هو "سطرٌ في الماء، وسطر في الريح، وسطر في الرمل، وسطر في ألواح الطين".
إن هذه الملامح إنما تتجسد في سياق من "الغنائية" الثرية العذبة (التي هي الملمح الكبير الرابع من ملامح تجربة شمس الدين). وهي ثرية لأنها لا تقتصر على الأنغام السطحية الهشة أو الصوت الأحادي الوحيد الفقير، بل تشتمل على الطابع الدرامي الغني حيث تتعدد الأصوات ويبرز الحوار، كا تتسع لأحزان الذات (وانقساماتها) وأحزان المجموع. الموسيقى حاضر أساسي في النصوص: كمادة وموضوع ورمز. كأن شاعرنا يستعيد جملة أبي حيان التوحيدي" من سمع الغناء على حقيقته مات" هو يبدأ من "سكسفون الوحدة" لينتهي الى سبعة أبواب للموسيقى، تبدأ بالفتوح وتنتهي بالجنة. وهو يستعيد زرياب حيث الحنين الى زمان الوصل بالأندلس، ويستعيد معبد الى جوار محمد عبد الوهاب، ويستعيد الأغاني للأصفهاني الى جوار شمس المساكين. أليس الشعر يوحد بين الأسماء"؟ ثم إن هذه الغنائية يمكن أن تغدو غنائية رمزية، ويمكن أن تصبح غنائية تجريبية، حيث "الحرية: مبتدأ لم يبدأ/والوحدة: قائمة في الموت".
بعد هذه الملامح الكبيرة الأربعة التي تسم تجربة محمد علي شمس الدين، أود أن أشير الى بعض "التيمات" البارزة في هذا الشعر:
الطير بطل جوهري من أبطال هذه النصوص. والطير أداة وغاية ورمز. حيث يصبح "طوق الحمامة" تجربة وذاتاً وموضوعاً، إذ يلتبس الطير بالشعر، فهل يصطاد الصياد الطائر، أم أ، الطائر يصطاد الصياد؟ كأن جدل الحمامة والقفص هو جدل الشعر والدنيا، إذ الشعر هو ـ كما قال قائل "هو اصطياد العالم في قفص الشكل". كأن الطير هو إلماح الى الشعر الذي لا يقتنص، أو الى الحرية حيث الرفرفة في الفضاء، أو الى الوطن الذي يقصقص الكثيرون جناحيه ليظل هامداً كسيحاً.
بطولة أبي العلاء المعري، الذي سنلقاه في أكثر من نص طوال مسيرة الشاعر، وكأن استحضار المعري يعني الانتماء الى ثلاث قيم بارزة: العمى الذي يعني ازدهار البصيرة، والشك الذي يعني هجرة اليقين المريح، والحكمة الوجودية الأليمة التي ترى الموت ختاماً لكل سعي بشري. إن اللعب مع أبي العلاء هو اللعب مع الرؤية الثاقبة، واللعب مع المصائر المعلقة، واللعب مع الحيرة الخالقة أو المميتة، واللعب مع القدر المقدّر على "الوضع البشري" الذي هو أشبه "بمنازل النرد". هذه الحيرة التي جعلت هاملت يتساءل "أكون أو لا أكون"، فيحيلها شاعرنا الى أزمته التي تقرن الكتابة بالحياة: "أكتب أم لا أكتب".
ج- استدعاء الشهداء القدامى وخلطهم بالشهداء المحدثين، فلا تعرف: هل الشهيد هو القديم أو الحادث؟ زينب ومريم تحضران فلا ندري اهما الرمزان القديمان أم هما الضحيتان المعاصرتان للغدر الإسرائيلي أو اليميني في جنوب لبنان؟ وديك الجن والحلاج ولوركا ورابعة، هل هم الشعراء المطعونون القدماء "شهداء الحب والعشق الإلهي والفاشية" أم أن هؤلاء هم الشاعر المعاصر الذي يتقمصهم جميعاً؟ هل هو شهيد الرسالة الأول يسوع المسيح، فيجتمع لدينا التفاعل مع الأديان جميعاً مع التناص ومع الشعر و"أساطير الأولين".
د- شاعرنا المتصوف، المغرم بتراثه العربي والكوني القديم والحديث، الغنائي الدرامي العذب، هو قبل كل ذلك وبعد كل ذلك، المواطن الثوري المنحاز للحرية والعدل وللبسطاء و"المحرومين"، حيث "لا يتنفس الفقراء في مدن النحاس".
السباحة في "مجرة" الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين تحتاج أياماً وأياماً، ولذا سأكتفي بهذا القدر الموجز من الإلماح الموجز لبعض ملامح تجربته الطويلة العريضة العميقة، (مدركاً أنني فاتني منها أكثر مما ذكرت). وأترك القارئ ينعم بسياحته الخاصة، ويستمتع باكتشافاته المباشرة، ولا ريب أنه سيكتشف الوفرة الوافرة من الكنوز المدهشة المبهجة، في هذه النصوص المدهشة المبهجة، على الرغم مما تنضح به من ألم وعذاب.
هذا شاعر كبير، انطلق من الجنوب (جغرافياً وتاريخياً) ليغدو لسان الدنيا بجهاتها الأربع، وبعصورها المختلفة، خالطاً بين المأساة والأمل، وبين الثورة والتصوف، وبين الوجود والعدم، في سبيكة أصيلة، معاصرة، جديدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق