الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

فاروق عبدالقادر:الوَرَّاق.. الذي استغني فملك «استغن تملك»

فاروق عبدالقادر:الوَرَّاق.. الذي استغني فملك «استغن تملك»


حلمي سالم

الأهالي : 01 - 07 – 2010

هذا هو المبدأ الصوفي الإسلامي الأساسي الذي عاش به الناقد الكبير فاروق عبدالقادر (1938 - 2010) الذي رحل عن عالمنا منذ أيام قليلة، بعد مشوار أليم مع جلطة المخ (سحقا لجلطة المخ) التي أقعدته ببيته في شبرا
زمنا، ثم أقعدته في بيت للمسنين زمنا، ثم أفقدته الوعي قبل طيرانه إلي بارئه بمستشفي القوات المسلحة بالمعادي، بدون أن يعلم بخبر حصوله، قبل يوم واحد من رحيله، علي جائزة الدولة للتفوق، التي حياه بها المجتمع الثقافي، وإن كانت أصغر من قامته النقدية العالية.
استغني فملك: استغني عن الوظائف والمؤسسات والمناصب ليكسب استقلاله الذاتي وحرية قلمه الصريح، ثم استغني عن التنظيمات اليسارية (علي رغم بدايته الشابة في تنظيم «الراية» الشيوعي) ليكسب عدم ارتهان رؤيته لحزب أو منظمة أو عقيدة جامدة، وإن ظل علي قناعاته في العدالة والحرية والاشتراكية والتقدم. وهكذا ظل، حتي مات، مستغنيا فمالكا.
ولد فاروق عبدالقادر بقرية منية السيرج لأب من «أفندية ثورة 1919»، كما يقول المؤرخون في وصف تلك البرجوازية الصغيرة المكونة من الطلاب وصغار الموظفين الذين كانوا جسم الثورة الشعبية النابض. بيت الطفولة، إذن، كان مفعما بالحس الوطني والنزعة الليبرالية والثقافة الأصيلة التي يتجاور فيها «العقد الفريد» مع «دعاء الكروان» ويتجاور «تاريخ الجبرتي» مع «عبقريات» العقاد، وتتجاور «ألف ليلة وليلة» مع «عودة الروح».
في شارع شبرا، حيث عاش وحيث نبغ وحيث ختم الطريق الشاق، كانت كلية الآداب جامعة عين شمس، التي التحق فيها بقسم علم النفس. وعندما تخرج منها عام 1958، كان ثلاثة من أساتذته بها قد تركوا بعقله بصمات ظاهرة وغائرة: مصطفي زيوار الفرويدي، ويوسف مراد التكاملي الوجودي، ومصطفي صفوان الشيوعي.
هذه هي «الخلطة السحرية» التي خرج بها من دراسته الجامعية، مجسدا نسيجا عميقا من الفلسفات الكبري التي ملأت سماء منتصف القرن العشرين: الفرويدية والوجودية والماركسية. علي أن روحه المتمردة المنحازة إلي مستقبل أكثر عدلا وحرية وإنسانية للبسطاء الذين نشأ بينهم في منية السيرج وشبرا سرعان ما جعلته يحسم هذا النسيج الثلاثي لصالح الانتماء اليساري، بانضمامه إلي منظمة «الراية» الماركسية، ثم سرعان ماغادرها بعد أن شاهد حمي التخوين والتخوين المضاد تكاد تأكل الكثيرين، فآثر الاحتفاظ «بالفكرة» النبيلة، من دون صندوقها التنظيمي الضيق، كأنه يطبق نداء محمود درويش: «ما أصغر الدولة/ ما أكبر الفكرة».
لحظات قليلة في حياة فاروق عبدالقادر هي التي عمل فيها داخل مؤسسات، مثل عمله سكرتيرا لتحرير مجلة «المسرح»، مع سعدالدين وهبة، ثم فترة وجيزة في هيئة الاستعلامات، ومثل إشرافه علي ملحق الأدب والفن بمجلة «الطليعة» بمؤسسة الأهرام مع لطفي الخولي.
توالت كتب فاروق عبدالقادر النقدية التي صنعت له مكانة متفردة في صفوف النقاد الواقعيين التقدميين الجادين الصرحاء. من أبرز هذه الكتب: ازدهار وسقوط المسرح المصري، مساحة للضوء مساحة للظلال، من أوراق الرماد والجمر، رؤي الواقع وهموم الثورة المحاصرة، من أوراق الرفض والقبول، من أوراق التسعينات، البحث عن اليقين المراوغ، كراسة سعدالله ونوس، من أوراق الزمن الرخو، من أوراق نهاية القرن: غروب شمس الحلم، كما توالت ترجماته البارزة التي من أهمها.. بيتر بروك: المساحة الفارغة، النقطة المتحولة، مسرحيتا فترة التوافق ولعبة السحلية ليتسني وليامز، المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلي بيتربروك، مسرحية البينج بونج لأداموف،و العلم في التاريخ لبرنال، طرائق الحداثة لرايموندوليامز، ونهاية اليوتوبيا لراسل جاكوبي.
عدو الزيف
صفتا الاستقلال والوضوح لازمتاه في تركيبته الشخصية وفي ممارسته النقدية علي السواء، مما انعكس علي مواقفه وكتابته، فكان غير مندرج وغير منافق، إلي درجة التشدد التي اشتكي منه بعض المثقفين وبعض الأدباء.
كان طبيعيا، إذن، أن يصفه الملف الضافي الخاص عنه الذي نشرته مؤخرا مجلة «الثقافة الجديدة» من إعداد وتقديم الزميلة والروائية بهيجة حسين، بوصف «قاضي الأدب النزيه»، في لفتة طيبة إليه وهو علي فراش المرض، ترد إليه بعض دينه علي الأدب والأدباء. شارك في اللفتة الطيبة والتحية الواجبة كل من: إبراهيم أصلان وبهاء طاهر ورفيق الصبان وسحر الموجي وسميحة أيوب وعبدالمنعم تليمة وفريدة النقاش ومحمد صبحي ومحمد فاضل.
وصفه الروائي محمود الورداني بأنه «لم يساوم علي ضميره» علي الرغم من أنه عاش معظم حياته بلا مورد ثابت أو تأمين، ووصفه إبراهيم أصلان بأنه «يجسد معظم القيم النبيلة التي نفتقدها الآن»، وأنه في صدارة من يقومون بمتابعة النتاج الأدبي المصري والعربي، ووصفه الروائي بهاء ظاهر بأنه «واحد من أصحاب مشاريع الحرية والتقدم»، وأن «قلمه قاطع كالسيف». ووصفه الناقد عبدالمنعم تليمة بأنه تابع مسيرة الجيل الرائد من النقاد (مندور وعياد وعوض والقط والراعي والقلماوي ولطيفة وعز والعالم» بموضوعية حازمة ونزاهة مشهودة.
ووصفته الناقدة فريدة النقاش بأنه برع في التحليل الجزئي والكلي للشكل الفني انطلاقا من الفكر السيوسيولوجي الماركسي، وهو يتعمق معرفة قوانين الظاهرة الأدبية وطريقة تشكلها.
أوراق العمر
هذا هو «الورّاق» بحق. ألم نلاحظ أن عناوين أكثر من نصف كتبه لا تخلو من كلمة «من أوراق..»، كأن حياته تبدأ بالورق وتنتهي به: يقرأه أو يكتبه. لا غرابة ، فهو لم يعرف غير ورق الكتاب ورقا: لا ورق البنكنوت فهو المتقشف، ولا ورق الشكاوي الكيدية فهو ليس متطلبا ولا متطمعا، ولا ورق التعيين فهو المستقل برأسه وقلمه، لكنه، فقط، يعرف ورق التاريخ «تاريخ الوطن والأدب»، وورق العمر «الذي انتزع المرض آخر صفحاتها منذ أيام»، هل نتذكر سيرة لويس عوض التي اسماها «أوراق العمر»؟ وهذا هو «المستغني»، الذي لم يكتف بالاستغناء عن الوظيفة أو المنصب أو طرق الأبواب، بل استغني عن البيت فلم يبرح بيت شبرا، واستغني عن الزوجة فاقترن بالحبر والدواة، واستغني عن الولد، فأنجب ما يزيد علي خمسة وعشرين كتابا هي ذريته الصالحة ونسله الرفيع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق