الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

مطر بين احتفالين


مطر بين احتفالين
حلمى سالم
فى شهر أبريل عام 1975 ، كنا مجموعة من شباب الشعراء (ممن صاروا يسمون بعد ذلك شعراء السبعينيات) متحلقين حول الشاعر الكبير سيد حجاب ، وكان حينئذ مسئولاً عن القسم الثقافى بمجلة «الشباب» التى كان يصدرها الاتحاد الاشتراكى العربى آنذاك ، قبل أن يتحلل إلى منابر ثلاثة ، بعد ذلك بعام واحد فى 1976 .
أقام سيد حجاب فى مقر المجلة (بمبنى الحزب الوطنى الديمقراطى على الكورنيش الآن) ندوة أسبوعية للشعر الجديد ، كان عمادها ذلك الجيل السبعينى الصاعد . وفى هذه الندوة - تحت رعاية سيد حجاب - تعرّف معظم شعر هذا الجيل على بعضه البعض .
فى ذلك الشهر (أبريل 1975) احتفلت هذه المجموعة الشابة - بتشجيع من حجاب - ببلوغ الشاعر محمد عفيفى مطر عامه الأربعين ، كان الاحتفال بناء على اقتراح من الشاعر الشاب ابن كفر الشيخ : على قنديل . تجسّد الاحتفاء فى شكل «ملف خاص» فى المجلة عن مطر ، شاركنا فيه جميعاً ، نحن الشباب ، وعلى رأسنا حجاب نفسه .
كان غريباً بالطبع أن يتم الاحتفال بشاعر أو كاتب لبلوغه سن الأربعين ، فالأربعون ليست عمراً طاعناً حتى يُكرّم صاحبه ، بل إن الأربعين هى بداية طريق النضج والصوت الخاص . لكن حرصنا على هذا الاحتفاء كان يعنى أننا نتنسّم أية مناسبة (حتى ولو مخترعة) لكى نعبّر لمطر عن حبنا له وامتناننا لدوره معنا .
كان مطر ، فى ذلك الحين ، يقيم فى مدينة كفر الشيخ ، حيث كان يعمل فى تدريس الفلسفة بالمدرسة الثانوية فيها . وتجمعت حوله مجموعة كفر الشيخ الباهرة : محمد الشهاوى وجمال القصاص وأحمد سماحة وتاج الدين محمد تاج الدين وعلى قنديل وعبد الدايم الشاذلى وإبراهيم قنديل وعلى عفيفى والسعيد قنديل والفنانون عبد الوهاب عبد المحسن وسيد عبده وبكرى محمد بكرى وعبد المنعم مطاوع وغيرهم كثيرون . وكنا نحن - المقيمين بالقاهرة - نلتقيهم أثناء زياراتنا لكفر الشيخ . اتخذت هذه المجموعة من مطر رائداً ، واتخذ منهم مطر تلاميذ واعدين .
وكان صدى مجلة «سنابل» التى أصدرها مطر فى كفر الشيخ فى العامين الأولين من السبعينيات ما زال عالقاً فى أذهان الجميع ، قبل أن تغلقها الإدارة فى كفر الشيخ بعد نشرها قصيدة «أغنية الكعكة الحجرية» لأمل دنقل فى أواخر 1972 .
وتشكل العلاقة بين مطر وعلى قنديل خيطاً فريداً فى ذلك النسيج . تعهّد الشاعر الكبير مطر النبتة الباهرة فى الشاعر الواعد قنديل . فصار يرعاه ويقوم خطاه ويضع فيه من نفْسِه ونَفَسِه . وأخذ علىّ منه الكثير الكثير مفعماً بمناخه ورؤاه (مثلما حدث معنا جميعاً تجاه مطر) . وفى قصيدة «القاهرة» أشار قنديل إلى مطر ضمن من أشار إليهم كعلامات درب «حيث عفيفى مطر يتسلق مئذنة الدمع» .
وتشاء الأقدار ألا تمضى سوى شهور قليلة بعد احتفالنا بأربعين مطر فى مجلة «الشباب» ، حتى تصدم سيارة عسكرية طائشة على قنديل أمام قصر ثقافة كفر الشيخ فيموت فى 17 / 7 / 1975 .
لم يكن على قنديل قد أصدر ديواناً بعد ، فهبّ أصدقاؤه وأهل كفــر الشيخ - وعلى رأسهم مطر نفسه - وجمعوا قصائده فى ديوان وحيد أصدروه من دار الثقافة الجديدة عام 1976 بعنوان «كائنات على قنديل الطالعة» وكتب مطر مقدمة ضافية مدهشة لهذا الديوان الجميل يبكى فيها ابنه الشعرى البديع ، وينير الملامح الرفيعة فى قصائد هذا الشاعر الذى قال : «علىّ أن أكون اللونَ الثامنَ فى قوس قزح» .
إذن ، نحتفل اليوم بسبعين مطر ، وليس بيننا على قنديل ، الذى اخترع الاحتفال بأربعين مطر منذ ثلاثين عاماً . نهدى احتفالنا بمطر إلى علىّ ، ابنه الذى فقده منذ ثلاثة عقود ، ونهدى تذكرنا (علىّ) إلى مطر ، أبيه الذى ثُكلَ فيه . ونهدى كليهما - الاحتفاء بمطر وتذكر علىّ - إلى أنفسنا : نحن أشقاء الراحل وأبناء المقيم ، نحن الذين قُدّر لنا أن ندمع لفقد الابن الغضّ ونفخر لإنجاز الأب الجليل ، وبين الدمع والفخر : تنفطر قلوبنا بالشعر والمحبة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق