الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

مقاومة الموت بالمحبة

مقاومة الموت بالمحبة
حلمي سالم الأهالي : 27 - 10 - 2011

عندما كنت ذاهبا إلي عزاء الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي د. يسري خميس، في مسجد الحامدية الشاذلية بالمهندسين، وقبل أن أصل إلي السرادق بخطوات، قابلني الروائي الكبير الصديق يوسف القعيد، وكان خارجا من السرادق بعد أن أدي واجب العزاء، وقال لي منبها: خذ بالك، هناك سرادقان، الأول فيه تشابه
أسماء، عزاء متوفاة اسمها يسرية محمد خميس، والثاني عزاء يسري خميس، فانتبه حتي لا يختلط عليك الأمر بسبب هذا التشابه العجيب للأسماء، وحينما دخلت علي سرادق يسري خميس، قلت للدكتور محمد الباجس، الصديق والكاتب وتلميذ سيد خميس، وكان واقفا يتلقي العزاء بجوار شوقي خميس وابن يسري خميس، فإذا به يقول لي: المتوفاة المجاورة هي أخت يسري خميس، وقد شاءت تصاريف القدر أن يرحل يسري يوم السبت، وأن ترحل أخته يوم الأحد، وأن يتجاور السرادقان في مسجد واحد في ليلة واحدة!
يسري خميس هو أستاذ جراحة الحيوان بجامعة القاهرة، وهو أحد مؤسسي مجلة «جاليري 68» الأدبية مع إدوار الخراط وجميل عطية إبراهيم وأحمد مرسي وغالب هلسا وسيد حجاب وإبراهيم منصور وغيرهم، أصدر خميس مجموعات شعرية، هي: قبل سقوط الأمطار، التمساح والوردة، طريق الحرير، أساطير مائية، ممر الأفيال، وله ديوان تحت الطبع بعنوان «أيام الكلاب».
كما ترجم عن الألمانية لإريش فريد ديوان «فيتنام»، ومجموعة «أشعار ضد إسرائيل» وعن جونتر آيش وبرتولد بريخت، وترجم من المسرح الألماني لبيتر فايس وبريخت، ثم دورينمات وفالك ريشتر، وقدم مسرحيات للأطفال بالاشتراك مع الشاعر شوقي خميس والفنان رحمي.
غزاه المرض الخبيث منذ شهور، وكان يقاومه بصلابة محبي الحياة ورقة الشعراء، وحينما كنا نتقابل أو نتهاتف، في الفترة الأخيرة، لاسيما أثناء أن كنا نعد ملفا خاصا عنه في مجلة «أدب ونقد»، قبل ثلاثة شهور، كان يقول لي: إننا نقاوم بمحبة الفن ومحبة الحياة ومحبة الأمل، وهو ما كان يذكرني «كما كان يذكر أمينة النقاش» بجملة سعدالله ونوس، الكاتب المسرحي السوري، الذي صرعه نفس المرض عام 1997: «نحن محكومون بالأمل».
إبداع متنوع
كتب يسري خميس الشعر، وترجم أشعارا ومسرحيات، وأسس مسرح جامعة القاهرة، وهو عضو شرف جمعية بيتر فايس الدولية ببرلين، وقام بالإعداد الدرامي لمسرحيات عديدة، لكن إسهامه الأعظم عندي هو تعريف المسرح المصري والعربي بما سمي «المسرح التسجيلي» أو «المسرح السياسي» أو «الكباريه السياسي»، وذلك عبر ترجماته لمسرحيات بيتر فايس، وكانت تلك المساهمة ريادة خالصة ليسري خميس، فالمسرح المصري في الستينيات، بعد تقديم «ماراصاد» و«الغول» لفايس، وبعض أعمال بريخت، من ترجمة يسري خميس، صار غير المسرح المصري بعد تقديم هذه العروض، لأن هذه العروض فتحت طريقا جديدا للمسرح المصري في تلك السنوات، تابعة بعد ذلك مسرحيون عديدون، مصريون وعرب، مثل ألفريد فرج في «النار والزيتون» و«ليلة مصرع جيفارا العظيم»، ومثل سعدالله ونوس نفسه في أغلب أعماله، ومثل نجيب سرور في «ياسين وبهية» و«آه يا ليل يا قمر»، كما تابعه بعض المسرح الخاص مثلما فعل محمد صبحي وجلال الشرقاوي، وتابعه المسرح الجامعي، وظل هذا الطريق «طريق المسرح التسجيلي أو الكباريه السياسي» مفتوحا حتي لحظتنا الراهنة، يرتاده الكثيرون من شباب المسرح.
وإذا عرفنا أن المسرح كان هو منبر التعبير عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في الستينيات، أدركنا أن نقل يسري خميس للمسرح التسجيلي «أو مسرح الكباريه السياسي» إلي مسرحنا المصري والعربي كان عملا من أعمال الفتح لهذا المثقف الشاعر المترجم.
ويتوازي مع هذه الريادة الحقة، مشاركته في تأسيس وإصدار مجلة «جاليري 68» مع زملائه من أدباء الستينيات، وهي المشاركة التي تعني السعي الجاد إلي الاستقلال عن المؤسسات الثقافية الرسمية التي لا تعبر عن ضمير الأدب والأدباء تعبيرا حقيقيا صادقا، لاسيما بعد هزيمة 1967، وقد فتحت تجربة مجلة «جاليري 68»، هي الأخري، طريقا جديدا لسعي المثقفين إلي الاستقلال عن المؤسسات الثقافية الرسمية، وقد تواصل هذا الطريق - بعد جاليري 68 - في جمعية «كتاب الغد» أوائل السبعينيات، وفي جماعات ومجلات: «إضاءة 77» و«أصوات» و«الغد» و«الموقف» و«مصرية» و«الكتابة السوداء» و«الكتابة الأخري» و«أمكنة»، منذ أواخر السبعينيات حتي السنوات الأخيرة.
رؤية رحبة
ثمة فضيلة ثالثة في يسري خميس، وهي قدرته المبكرة علي الإفلات من الفهم الضيق الحديدي للواقعية الاشتراكية، الذي ساد عند كثير من مجايليه في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، فقد امتلك رؤية رحبة واسعة في النظر إلي الفن وفي إنتاجه، بدون أن ينغلق في المنظور السطحي الزاعق الفقير الذي ينتج فنا ضعيفا بحجة الموقف الثوري، والذي يقصي من دائرة التقدير والاحترام أعمالا فنية عظيمة، ولعل قدرته علي الإفلات من القبضة الحديدية للفهم الحديدي للأدب الثوري راجعة إلي صلته الوثيقة بالأدب الألماني وبفرانز كافكا، وبرؤية روجيه جارودي الرحبة للفن التي قدمها في كتابية «ماركسية القرن العشرين» و«واقعية بلا ضفاف» اللذين أعاد فيهما الاعتبار إلي كافكا ككاتب عظيم يغوص في أعماق الوضع البشري، بعد أن نظر إليه كثيرون من النقاد اليساريين كمجرد كاتب برجوازي صغير متشائم يائس محبط.
وكما قدم يسري خميس المسرح التسجيلي «الكباريه السياسي» إلي المسرح المصري والعربي عبر ترجماته لكل من بيتر فايس وبريخت قدم كمؤلف للمسرح المصري والعربي بعض العروض التي تنطلق من نفس أرض المسرح التسجيلي مثل مسرحيته «فضيحة أبوغريب» «التي نشرت في هيئة قصور الثقافة» وقدمت علي المسرح، وفيها استخدم خميس نصوص التحقيقات في جرائم تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب علي أيدي قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني.
هموم الشعب
الفضيلة الرابعة ليسري خميس تجسدت في أنه كتب دواوينه الشعرية الخمسة في إطار «قصيدة النثر»، منذ الستينيات «كزميلة في جاليري 68 أحمد مرسي الرسام والشاعر» من غير أن يطنطن بريادة قصيدة النثر، ومن غير أن ينازع أحدا علي موقع آباء هذه القصيدة من المصريين أو العرب، ومن غير أسي أو عتاب علي شباب قصيدة النثر من الأجيال التالية، علي أنها لم تذكره كواحد من المؤسسين لهذه القصيدة في حياتنا الشعرية الراهنة، ثم إنه قدم هذه القصيدة بدون أن يجردها من الاهتمام بالواقع السياسي والاجتماعي كما فعل شعراء الأجيال التالية، الذين سعوا إلي «تنظيف» هذه القصيدة من الانغماس في هموم الشعب وقضاياه، بقصرها علي التعبير عن لواعج الجسد واعترافات الذات الذاتية المنغلقة علي ذاتها.. في ذلك كان يسري خميس يقول: «الكاتب لا يمكنه أن ينعزل عن شرطه التاريخي، فليس من الممكن أن يكتفي الشاعر بتقديم تهويمات رومانسية في الوقت الذي ينهرس فيه شعبه مع كثير من شعوب العالم تحت أقدام أفيال ضخمة تسيطر علي ما يسمي بالنظام العالمي الجديد».
يسري خميس، الشاعر، والمترجم، والمسرحي والأستاذ الجامعي، هو الرجل الحيي الرقيق، الذي يحترم نفسه ويحترم ثقافته، ولذلك لم يسع إلي الضوء، ولم يروج دعاية إعلامية حول نفسه، كما يفعل بعض الأدباء، فظل بعيدا عن الضجيج الصاخب، ونائيا عن البهرجة والزركشة والحضور الفج، لكنه ظل في قلوب تلاميذه ومحبي الثقافة الجادة، مثالا للمثقف المتواضع، ونموذجا للمبدع المحترم، وصورة من صور البناءين الحقيقيين في ثقافتنا المعاصرة، وعلامة علي الحالمين «المحكومين بالأمل».