الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

عدلي رزق الله وزهور المحاياة


عدلي رزق الله وزهور المحاياة

الأهالي : 25 - 09 - 2010

الصعيدي الذي ولد في أبنوب بأسيوط، ودرس الفن التشكيلي ومارسه في باريس، ثم صار واحدا من أبرز الفنانين التشكيليين المصريين المعاصرين، هو عدلي رزق الله (1939 - 2010) الذي رحل عنا منذ أيام قليلة بعد أن صارع المرض اللعين لمدة ستة أشهر، ثم طار إلي السماء.
أحب النخيل منذ الصغر فقال مرة: «حب النخيل يكاد يكون عشقا منذ الصغر، هو حب مهزوم دائما، حاولت أن أتسلق النخيل لكني لم أستطع، النخلة هي رمز الصعيد، الطبيعة القاسية، لاسعة الحلاوة حين تجود الثمرة، نادرة العطاء، من الحول للحول مرة»، لذلك كان النخيل صاحب حضور باهر في لوحاته بعد ذلك، وكأنه يكمل عشق بلدياته ابن أسيوط، محمود حسن إسماعيل حينما هتف: «سمعت في شطك الجميل/ ما قالت الريح للنخيل/ يسبح الطير أم يغني/ ويشرح الحب للخميل/ وأغصن تلك أم صبايا/ شربن من خمرة الأصيل؟».
أنا أعرف.. أعرف أني لا أعرف.. تعطيني وصيفاتك قطرات.. لكنك أنت وحدك تملكين المعرفة.. لولاك ستكون حياتي عبثا.. أتمني ألا يصيبني الوهن قبل أن أصلك لتضميني ضمة المعرفة - الموت»، هكذا صدر عدلي رزق الله كتابه الكبير «الوصول إلي البداية: في الفن وفي الحياة»، الذي هو «سيرة ذاتية» أخرجها للنور حينما بلغ عامه الستين في 1999، وهو تصدير يشي برغبة الفنان في أن يظل يسعي إلي المعرفة التي هي نبع لا يجف، كما يشي عنوان السيرة الذاتية «الوصول إلي البداية» بالإيمان بأن طريق الفن طويل متصل لا ختام له، وأن كل نقطة بلوغ للهدف فيه هي بدء لمرحلة جديدة، وهكذا كان عدلي: نهم دائم للمعرفة، شهية دائمة للتعلم، اقتناع كامل بالسعي لا الوصول، ففي الفن الحقيقي لا وصول، بل بحث لا ينقطع.
«كرهت القبح، اختنقت بالرداءة»، مبدأ آخر من مبادئ حياة وفن عدلي رزق الله، معاداة القبح، في الطبيعة والسياسة والسلوك والعمران، واعتناق دائم للجمال والجودة والإتقان.
أبنوب وباريس
في «الوصول إلي البداية» يتحدث فناننا الكبير عن نشأته ومجتمعه الصعيدي بأسيوط، ثم نزوحه إلي القاهرة، ثم دراسته في كلية الفنون الجميلة، شارحا رأيه في أساتذته «عبدالهادي الجزار، الحسين فوزي، كمال أمين، عزيز مصطفي، عبدالله جوهر، ماهر رائف»، بعد ذلك يتحدث عن «أصدقاء العمر الجميل» «نذير نبعة وشلبية إبراهيم، اللباد «الذي سبقه إلي السماء بأيام قليلة»، نبيل تاج، مصطفي القرشي، نجم، الشيخ إمام، كمال خليفة، طارق البشري، محمود اللبان».
في حديثه عن مرحلة الرحيل إلي باريس، أوائل السبعينيات تكلم عن الفترة الصعبة الأولي فيها حين كان يرسم بطاقات فنية تجارية ويبيعها ليعيش، ثم اندماجه في الحياة الثقافية والفنية بباريس، وإقامته المعارض العديدة في أشهر قاعات العرض بها، والتعرف علي تياراتها الفنية الجديدة.
وعلي الرغم من أنه فنان تشكيلي فإن علاقته بالأدب والأدباء والشعراء علاقة مكينة وثيقة، وهو يعترف بذلك في مقدمة «الوصول إلي البداية» قائلا: «كان للكلمة في حياتي دور لا يقل أهمية عن دور الصورة، فمنذ الطفولة الباكرة تزاوجت الكلمة المكتوبة والصورة في تربية وجداني، أقبلت علي تلقي الأدب المكتوب بنهم عارم لكنني خفت دائما من اقتراف جريمة الكتابة».
العلاقة وثيقة، حتي إنه خصص فصلين أساسيين من سيرته حول هذه العلاقة، الأول بعنوان مع «الأدب والأدباء»،، والثاني بعنوان «الشعر والشعراء»، يذكر رزق الله أن أول رواية جادة قرأها كانت «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وأنه أحب أعمال محمود البدوي.
واكتشف في مجلة «الرسالة الجديدة» محمود أمين العالم وشعر صلاح عبدالصبور، ثم يتحدث عن عبدالفتاح الجمل ومحمد جاد وسيد خميس وسيد حجاب ويحيي الطاهر عبدالله في «شقة العجوزة»، ثم يخص غالب هلسا بكلمات من العرفان الجميل.
ويذكر أنه أثناء افتتاح معرضه الأول بباريس ألقي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي «الذي كان مقيما بباريس حينئذ» قصيدة عن لوحات عدلي بالمعرض، وقد ضمنها حجازي ديوانه «كائنات مملكة الليل» وهي التي يقول فيها: «قطرتان من الصحور/ في قطرتين من الظل/ في قطرة من ندي/ قل هو اللون/ في البدء كان/ وسوف يكون غدار/ فاجرح السطح إن غدا مفعم/ ولسوف يسيل الدم».
وبعد عودة عدلي رزق الله إلي مصر من باريس، في منتصف الثمانينيات، نشأت علاقة وثيقة بينه وبين شعراء السبعينيات، حتي إن عديدا منهم كتب القصائد المهداة و«المستوحاة» إلي لوحات عدلي، من هؤلاء عبدالمنعم رمضان والسماح عبدالله «من جيل الثمانينيات» وأمجد ريان، ووليد منير الذي يقول في قصيدته «مائيات عدلي»: تخللتني زرقة واتسع الهواء/ وشف حولي جسد الكون/ فصار الكون زهرة/ وامرأة/ وماء».
اللوحات والأدب
ويحاول رزق الله تفسير احتفاء الشعر بمائياته فيري أن الصلة هي أن في لوحاته تكثيفا شعريا لا حكيا قصصيا، ويمكن أن نضيف إلي هذا السبب سببين آخرين: الأول هو «الحسية» أو «الجسدية» المشتركة بين لوحة رزق الله وشعر شعراء الحداثة، الثاني هو ابتعاد كليهما عن «الأغراض الأيديولوجية الزاعقة المباشرة».
علي أن أبرز تجادل بين الشعر ولوحات عدلي رزق الله هو ذلك التجادل الذي تم بين لوحاته وكتابات بدر الديب وإدوار الخراط، قال إدوار لعدلي ذات يوم: «إنك ترسم ما أحلم بكتابته»، وكتب الخراط أكثر من مرة عن معارض رزق الله قطعا أدبية نثرية شعرية عالية، منها حديثه حول مجموعات لوحات «زهور المحاياة» إذ كتب الخراط: «انشقاقات أحشاء ناعمة/ ملتهبة بألوان صفراء وقرمزية/ زهد الخطوط جمال بحت/ كأنه نسك النور الصحراوي/ انصهار الصخور في وهج سائل ومشع/ يغمر جسد العالم/ وعالم الجسد/ هل وحشة الأشلاء الداخلية قد صُفيت؟».
منذ عودته من باريس، تفرغ عدلي رزق الله لفنه فأقام العديد من المعارض التي كان يحرص علي أن يشارك الشعراء فيها بأشعارهم، وكم استمتعت شخصيا بإلقاء قصائد لي عن لوحاته وأنا محاط بلوحاته ومناخها الساخن الحار الطازج الحسي، عبر مجموعاته المختلفة: زهور المحاياة، بللوريات، مائيات، شهادات الغضب، النخيل السلطاني، الصعيديات كما رسم كتبا لدار «الفتي العربي»، وقدم مشروعا للصبية بعنوان «تمر» «وهو اسم ابنته» وصمم أغلفة كتب لمشروع التفرغ.
وهذا الاستقلال والتوحد هما ما عبر عنهما - مرة - الناقد مختار العطار قائلا: «عدلي رزق الله طراز متفرد في حركتنا التشكيلية، رسام متفرغ محترف لا يعتمد في حياته علي غير إبداعه، لا يستدر دولارات السائحين بتضمين رسوماته موتيفات شعبية أو إسلامية أو فرعونية كما يفعل الكثيرون من فناني العالم الثالث الانفتاحيين».
«طفل سوي أعظم من فنان»، هذه هي الجملة التي ختم بها عدلي كتاب سيرته «الوصول إلي البداية» وقد حرص في حياته وفنه علي أن يجمع الاثنين معا: الطفل والفنان.
رحل عدلي رزق الله، الطفل والفنان، الذي كانت ضحكته وذقنه ونظارته زادا للصداقة والحب والحياة، وكانت رسوماته أحد عناصر البهجة في عالم يموج بالتخليط والقمامة.
رحل الفنان الذي كان دائما: بداية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق