الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

في "معنى" العمود التقليدي: الصورة تسبق المادة


في "معنى" العمود التقليدي: الصورة تسبق المادة
حلمي سالم
كل شعر هو أيديولوجي أكثر من مرة: فمرة، من حيث أن الفن كله - كنشاط إنساني - هو صانع معرفة (وإن كان علماء الجمال يسمونها معرفة جمالية نوعية) ومجسد خبرة بشر، وعلامة نزوع إلى سد ثغرة في الحياة والكون والنفس الإنسانية. ومرة، من حيث ما تقوله الألفاظ مباشرة من معان ورؤى وانتماءات وآراء، أي من حيث الطبقة الأولى من طبقات الدلالة، المحمولة عبر المستوى الإشاري للغة ومرة بما تدل عليه التقنيات الفنية والطرائق الجمالية من مغزى فكري واجتماعي وحضاري على أن ما أود أن أقف عنده برهة - الآن - هو هذا الوجه الأخير من وجوه "إيديولوجية الشعر"، ذلك أن الكثيرين درجوا على استخلاص الموقف الفكري للشاعر من الوجه الثاني لأيديولوجية الشعر: منطوق الألفاظ ومحمولها المباشر الإشاري، في الوقت الذي لم يلتفتوا كثيراً إلى أن الأشكال الفنية والأساليب الجمالية هي نفسها معبرة عن رؤى اجتماعية وفكرية وفلسفية، ربما على نحو أكثر جذرية وصدقية من الرؤى التي يحملها - أو يوهمنا بحملها - المنطوق اللفظي التقريري نفسه. فـ"التطورات المهمة في الشكل الأدبي تنتج من تغيرات مهمة في الأيديولوجيا، وتجسد طرائق جديدة في إدراك الواقع الاجتماعي وعلاقات جديدة بسيرة الفنان والمتلقي" كما يقول تيري ايغلتون. وهو ما يعني أن الشكل ليس مجرد زينة أو محض زخرف (حتى مجرد الزينة ومحض الزخرف ليسا خاليين من الدلالة) وليس "توقيفاً" أبدياً لا يصح تغييره أو تجاوزه أو نفيه.
الأشكال، إذاً، "زمانية" لا "سرمدية" إنما هي تتغير بتغير العصور والمجتمعات والحاجات البشرية. فكل مرحلة تاريخية حينما تصعد على مرحلة سابقة، إنما تقدم للحياة أبنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الوقت نفسه الذي تقدم أبنيتها الفكرية وصيغها الفنية والجمالية. ولقد علمنا علماء الاجتماع والجمال والتاريخ والانثربولوجيا أن من الممكن استنباط طبيعة الحياة الاجتماعية والعقائدية والسياسية (بل والاقتصادية) لمجتمع معين، من أنماط العمارة فيه ومن أشكال الملبس والحلي وأدوات الاتصال والتنقل وهيئة المقابر وغير ذلك.
ليس من العبث، إذاً، الاهتمام بـ"فلسفة الشكل" في كل منشط بشري، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالفن، حيث "ماهية" العمل الفني غير متحصلة في غير "هيئته".
وإذا كان ذلك كذلك، فإنه تقديم أفكار جديدة في صيغ فنية قديمة، أو تقديم مضمون متقدم في شكل تقليدي (كما يدعو إلى ذلك مفكرون كثيرون، بعضهم تقدمي) ليس عبثاً من العبث فحسب، بل هو أيضاً منتج لا محالة نتيجة مضادة حيث يتغلب الشكل القديم على المضمون المتقدم (التقدمي) المصبوب فيه، وبقهره على الوصول إلى محصلة فاسدة تخون الهدف الطيب الذي كان وراء هذه المعادلة الخاسرة. ويرجع ذلك إلى أن الأشكال هي الأقوى، لأنها ليست مجرد أوعية محايدة سلبية، بل هي أشكال/ مضامين (أو أشكال بمضامين) في آن واحد.
إن صب الزيت في القوارير القديمة يصلح فقط في حال الزيت والماء والدواء، لكنه لا يصلح - قط - في الفن. فالأشكال الفنية ليست "قوارير زجاجية" مصمتة يظل الماء فيها ماء، والزيت زيتاً أو يخالطه أو يتخلله وليس كذلك الشكل الفني، المحمل - عبر صياغته وطرائقه وأساليبه - بخبرة اجتماعية وحضارية وثقافية لمرحلة تاريخية معينة. على ذلك، فإن دعوة بعض المفكرين والنقاد إلى ان نستفيد من الشكل العمودي التقليدي، بأن نضع فيه آراء ورؤى وأفكاراً متقدمة (أو ثورية)، مستخدمين ما لهذا الشكل من قابلية ورواج عند الذوق العالم، فنكسب الهدفين معاً: نسوق فكرنا التغييري من ناحية، وعبر الإطار الذي استساغه الناس من غير أن نصدمهم بأطر ليست مألوفة من ناحية ثانية. نقول إن هذه الدعوة تحتاج إلى مراجعة شديدة تبين تناقضها واستحالتها، فضلاً عن نفعيتها البراغماتية الظاهرة.
ذلك أنها تكشف عن أن القائلين بها ينطلقون - حتى لو كان بينهم تقليديون - من المنطلق المثالي السلفي نفسه الذي يؤيد الشكل ويعلقه في السماء عالياً فوق العصور والتطورات والمجتمعات. في هذه الدعوة، فإن الشكل العمودي شرط "طبيعي" للشعر، لا صيغة تاريخية. وهو وعاء زجاجي دائم يحتوي - على مر العصور - على فكر كل مرحلة ورؤى كل تطور. أما وجه الاستحالة في هذه الدعوة، فناجم عن التعارض بين الفكر الجديد الذي سنصبه في العمود القديم وبين دلالة شكل هذا العمود التقليدي القديم. إن شكل هذا العمود التقليدي نفسه هو "فكر":
أ - هذا العمود القديم يدل على أنه ابن مجتمع ثنائي: السماء والأرض، الشمس والقمر، شطرا البيت الشعري، الملاك والشيطان، الليل والنهار، اللاهوت والناسوت، رحلتا الشتاء والصيف، الجنة والنار، الصدر والعجز، وسواها من ثنائيات أوجدتها أرض منبسطة لا تقطعات أو تداخلات فيها، تواجه سماء واضحة تتجلى فيها الشمس نهاراً ويسطع فيها القمر ليلاً.
ب - هذا العمود يدل على أن مجتمعه ضيق محدود، يجتمع جل ناسه دائماً في محفل أو ندوة أو سوق يتبادلون منافع الحياة ومصالحها المباشرة، ويتناقلون الشعر والأخبار والروايات.
ج - هذا العمود يدل على التراص الأفقي، الذي لا تقاطعات رأسية فيه، حيث كل بيت شعري وحدة مستقلة لا تتجادل مع غيرها إلا في النادر، بل تتراصف في تجاور لا تداخل فيه ولهذا فهو مجتمع ذو بنية تجزيئية وتشييئية لا تربطه سوى علامات خارجية (شبيهة بوحدة القافية في كل القصيدة، مع انعزال كل بيت بذاته عن سواه).
د - هذا العمود يدل على أن مجتمعه ذو حضارة شفهية. إذ هم مجتمعون في السوق، يقدم فيه الشاعر قصيدته إلى جمع الحاضرين، ولذا تكثر فيها الظواهر الخطابية والسماعية، والنداءات إلى الصحب والمخاطبين (بخاصة الخليلين) وتنتشر فيه حالات البدء بألفاظ شد انتباه المستمعين وصيغ لفت الحاضرين، قبل الدخول في صلب الكلام (ألا يا أيها، الا يا ليت شعري، لعمري...).
هـ - هذا العمود يدل على أن المعرفة في المجتمع الذي نشأ فيه معرفة فوقية، يلقيها الشاعر (الواحد) على المتلقين (المجموع) مقفلة نهائية. مجتمع سيادي لا حوار فيه، المجتمع إذاً هو مجتمع التلقي والتلقين، لا المشاركة والتعدد.
و- هذا العمود يعني أن الزمن عند مجتمعه كان زمناً بطيئاً متطاولاً متكرراً عرضياً، تتوالي وحداتة من غير أن تتصاعد، وهو لذلك مجتمع الثبات والنمط والنمذجة والوصف الخارجي.
ز - على أن أخطر ما يدل عليه هذا العمود هو أن المجتمع الذي جسده مجتمع "يقدس" الشكل وينطلق من أولية الإطار على ما في داخل ذلك الشكل أو هذا الإطار من محتوى أو مضمون. إن هذا المجتمع هو التجسيد الاجتماعي العملي لصندوق "بروكست" في الأسطورة اليونانية القديمة، حيث يوضع الجسد في الصندوق، فإذا جاء أصغر من حجم الصندوق مطّوا أطراف الجسد مطاً ليصل إلى حجم الصندوق وإذا جاء الجسد أكبر من حجم الصندوق قطعوا ليصبح بحجم الصندوق. وهكذا دواليك. لا أهمية للجسد نفسه، المهم هو الصندوق. ولنكيف الجسد على مقاس الصندوق. وهذا ما يقوله العمود الشعري التقليدي: إذا جاء المعنى أقصر من البيت، مططناه وحشوناه حتى نبلغ تمام عدد تفعيلات البيت الثابتة وقافيته وإذا طال المعنى وزاد عن المساحة الحجمية للبيت بترنا المعنى بتراً.
الصندوق هو الأصل: لا توجه إلى تعديل الإطار إذا تعارض مع الجسد، وإنما التوجه هو تعديل الجسد (بتقطيع أوصاله أو بتفسخها) ليبقى الشكل متعالياً سابقاً خالداً.
هذا العمود، اذاً - بالتعبير الفكري - هو تجسيد لأسبقية الصورة على المادة، وهو بالتالي عمود يعبر عن عقل مثالي.
هل يستقيم، بعد ذلك، أن نصب رؤانا الجديدة في هذا الإطار القديم؟ هل يمكن أن نقول التغير بالجمود، أو نقول التعدد بالنمط، أو نقول الجدل بالثنائية، أو نقول الثورة بالقيود؟
الحياة 2005/02/1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق