الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

: "فتاة وصبى فى المقابر"

الشاعر حلمى سالم يكتب: "فتاة وصبى فى المقابر" .. المستقبل على هيئة شاحنة
حلمي سالم


اليوم السابع : 16 - 02 - 2011



كريم عبد السلام واحد من الأصوات الشعرية الجديدة فى مصر، وتجربته تمضى ديواناً بعد ديوان فى تعميق ملامحها الخاصة التى تجعله من أكثر أبناء جيله (الذى يسمى اصطلاحاً: جيل التسعينيات) تميزاً، أصدر قبل ديوانه " فتاة وصبى فى المدافن "ثلاث مجموعات شعرية هى: "استئناس الفراغ "1993، "بين رجفة وأخرى"1996، "باتجاه ليلنا الأصلى "1997.ويعتبر ديوانه "فتاة وصبى فى المدافن" 1999 خطوة واسعة فى طريق تجربة شعرية إنسانية كبيرة، مما يجعله لحظة بارزة فى مسار شاعره بخاصة، وفى مسار جيله بعامة.
ويستطيع المرء أن يضع يده فى هذا الديوان على مجموعتين من الملامح الفنية، تمثل الأولى منهما السمات المشتركة بين الشاعر وبين جيله والكتابة الشعرية الجديدة فى خصائصها الأعم، وتمثل الثانية منهما السمات المتفردة التى تختص بها تجربة كريم عبدالسلام عن كتابة جيله وعن الخصائص الأعم للكتابة الشعرية الجديدة. بجملة أخرى: تجسد المجموعة الأولى ما نسميه "المؤتلف"، بينما تجسد المجموعة الثانية ما نسميه
"المختلف".
من مجموعة المشترك (أو المؤتلف) يمكن أن نشير إلى الاتجاه المكثف نحو "السرد"، الذى لا يقتصر مفهومه على معناه الموسيقى الإيقاعى، فى الابتعاد عن الوزن الخليلى، فحسب، بل يمتد ليشمل المعنى الأعم، فى الابتعاد عن "الموزون" و"المنسجم" و"المنسق" فى الحياة ككل، صوب "المتكسر" و"الناشز" و"الرث" منها، ونشير إلى الولع الجارف بالتفاصيل، سواء كانت تفاصيل يومية معيشية، أو كانت تفاصيل معنوية أو وجدانية أو شعورية، أو كانت تركيزاً لعدسة الالتقاط على جزئية دقيقة فى المشهد أو فى الفكرة أو فى المخيلة، حتى يتم تفتيتها إلى شذرات متنافرة أو متضامنة، بعد هجر البؤرة الرئيسية، أو ما يظن أنها بؤرة رئيسية.
هدف "التفصيل" هنا، هو تحويل "العرض" إلى "جوهر" وتصغير "الجوهر" إلى "عرض"، وكأن ملمح التفاصيل فى هذا الشعر، هو تطبيق للمبدأ الجمالى العربى القديم الذى رأى أن البلاغة هى "تعظيم الأشياء الحقيرة، وتحقير الأشياء العظيمة".
وقد وصفت هذا الولع بالتفاصيل بأنه ولع جارف، لأنه "يجرف" النص، أحياناً، فى بعض شعر كريم عبدالسلام وبعض شعر أقرانه، إلى تخوم الثرثرة والإطناب والتزيد، وهى التخوم الذى تجافى التوتر والكثافة والاقتصاد، ولا تعترف بأن النص يكون جميلاً بقدر ما فيه من حذف لا بقدر ما فيه من إضافة.
ونشير إلى المتاح من ذاكرة الطفولة، متاح لا ينضب، جعل بعض النقاد يرون أن "صندوق الطفولة " السعيدة أو الشقية على السواء هو المخزن القريب الذى يعب منه خيال الشعراء الجدد، ونشير إلى التوجه نحو عالم الهامش والمهمشين فى الشعور والفكر والمجتمع على السواء. والموجز هنا تحويل "المركز" إلى "طرف" وتحويل "الطرف" إلى "مركز"، وهو ما يتعانق مع المبدأ السابق المتصل بالتفاصيل فى تحقير العظيم وتعظيم الحقير من الأشياء.
ونشير، أخيراً، إلى اتخاذ "المفارقة" أداة أساسية من أدوات تحقيق شعرية النص، تضيق إلى مفارقة جزئية، وتتسع إلى مفارقة كلية أو شاملة، وتتنوع بين ظاهرة وضمنية، وتتعدد وظائفها: بدءاً من السخرية، وانتهاء بتحطيم العلاقات المنطقية المألوفة بين أوصال الكلام، مروراً بقلب المعنى على قفاه.
***
كانت تلك بعض ملامح "المؤتلف" بين تجربة كريم عبدالسلام وتجربة أقرانه من مبدعى الكتابة الجديدة، بعدها ننظر إلى بعض ملامح "المختلف" بينهما، الذى يختص به شاعرنا ويجنح عن السرب. ونستطيع أن نرصد "اختلاف" كريم عبدالسلام عن معظم أقرانه متجلياً فى ثلاثة محاور رئيسية، هى محاور: الذات، والجسد، والواقع.
فى مسألة الذات: هنا شاعر لا تستغرق الذات عنه فى "ذاتها" فتختنق بنفسها وتخنق المتعامل معها، هذا المعنى الضيق للذات هو ما روجه بعض شعراء الشباب، من غير أن يدركوا أنهم به يرتدون إلى ما هو أسوأ من الرومانتيكية، التى عليها يتمردون، فى شعر كريم وبعض نظرائه الناضجين: الذات جزء من الموضوع، و"الأنا" جزء من "الآخر" والعكس صحيح، لذا نستطيع فى "فتاة وصبى فى المدافن" آلام الآخرين وسعادتهم بجوار أو مخلوطة فى آلام الأنا وسعادتها، ثمة "آخرون" عديدون فى كل نص تلتقطهم عين الشاعر وقلبه، واقف على مسافة قريبة بسيطة، تتيح له سعة الرصد وحياديته، من غير أن ينخرط أو يكون ضالعاً، ولعل هذه "المسافة" هى ما أوحت للبعض بأن تجربة شاعرنا خالية من الحرارة مفتقرة إلى سخونة العاطفة، وهو إيحاء غير حقيقى، لأن تصوير "الآخر" هو تصوير لقطاع أو قطعة من الذات، ولأن نوع الاختيار هو انحياز صميم، برغم ما تبديه الحيلة الشعرية من حياة.
وفى مسألة الجسد: هنا شاعر لا يبدأ العالم من جسده ولا ينتهى إليه، كما يتصور بعض زملائه، تحت وهم أن الجسد هو وحده المعرفة الحقة، ونصوصه لم تنزلق إلى الاعتقال المسرف بأن "فيزيقا" الجسد هى "ميتافيزيقا" الوجود، ولا إلى حمى زائفة اسمها "كسر التابو"، بسببها تكتظ الصفحات بهيستريا الجنس محمولة على قليل من التبرير الجمالى.
إن شاعرنا يمس ذلك "المحرم" مساً رفيقاً غير مهووس بهاجس الكسر والخرق، مبرزاً ما فى علاقة الجسد بالجسد من قدرة على مؤازرة الحياة ومقاومة الموت:
يمتلئ الهواء بالبهجة ويتحسس رجل فخذ امرأته
ثم ينسلان للداخل
يتعطل للحظات اللون الأصفر
الزاحف على الغصن
عند رأس الميت..
إن خصوبة الحب بين الرجل والمرأة لا تلقى بظلها الإيجابى على الأحياء فقط، حين يقاومون به الخوف والوحدة، وينجزون تواصل الحياة، بل إنها تلقى بظلها الإيجابى كذلك، على الأموات أنفسهم، حين تعطل انتشار رمز الفناء والذبول "الغصن الأصفر" على مدافن الميتين، حتى لا يموتوا أكثر من مرة.
وفى مسألة الواقع: هنا شعر لا يرى أن الاهتمام بالواقع سبة أو عار، ولا يخجل من أن يكون على طريقته واقعياً، وكم انطلق عديد من الشعراء الجدد من عقيدة ضالة تتنكر للواقع والواقعية والواقعيين، ولا ترى فى الحياة سوى الذات والجسد.
فى نصوص "فتاة وصبى فى المدافن" قطاع مدهش من الواقع الاجتماعى والثقافى والعاطفى المصرى "والعربى عامة"، منظوراً إليه عبر ذات شاعر يجلب مادة واقعة الشعرى من الأحياء ساكنى قبور الموتي، ومن العلاقة المتعارضة والمتجادلة بين أولئك وهؤلاء.
وواضح أن اختيار هذا القطاع من الواقع يعنى انحيازاً إلى المنبوذين جميعاً، على اختلاف نوع النبذ: المنبوذين من الحياة كلها بالموت، والمنبوذين من المجتمع المتكيف المنقسم، بحيث يصيرون أمواتاً "بصورة من الصور" وهم أحياء يرزقون أو لا يرزقون.
أبطال هذا الواقع هم بناءو القبور واللصوص والكواءون وطقوس زيارة الموتى، والكلاب، والضعفاء، وعسكر الأمن المركزى، والرحمة والنور، والمعوقون، والعزل من الأمن والأمان، والشاعر، مع كل هذه الأنماط، لا يدين إدانة أخلاقية، ولا أى تهكم بتعال، ولا يتعاطى مع مشاهده تعاطى المستشرق المتمسح بفولكلور طريف. إنه يرصد بمحبة دراما معيشة الأحياء فى قبور الأموات "كأنه يقدم معارضة عصرية لأجداده المصريين القدماء الذين جعلوا القبر إرهاصاً بحياة قادمة"، وما تحفل به هذه المعيشة من قهر وحب وتشوه وقسوة.
أما مأساة عمال بناء المقابر، فهى التطور الطبيعى لمأساة عمال بناء العمائر للأغنياء الأحياء، فقبل كريم بربع قرن قال على قنديل:
"يظل الرجل يبنى العمائر
حتى إذا اكتملت هنيئة للساكنين
أشهر دونه وعتباتها سيف محلى ودم مرتقب".
واليوم، يقول كريم:
"هم القادمون من قرى بعيدة
يفرغون من مدفن، ليبدأوا إقامة سواه
تاركين داخله حكايات عن الأهل
وعن قراهم البعيدة".
***
بعد هاتين المجموعتين من الملامح المشتركة والملامح المتفردة، لن تفوتنا الإشارة إلى قسمات جانبية كثيرة فى نصوص "فتاة وصبى فى المدافن": منها التجاء الشاعر إلى "كسر الإيهام" على طريقة بريخت، بنفى اندماج القارئ فى النص، كأن ينبهنا إلى أن هذه القطة هى القطة التى مرت علينا فى القصيدة السابقة، ومنها إتقانه مبدأ "جمالية القبح" بدون إسراف قبيح، مما يقع فيه كثيرون. ومنها التقاطه مشاهده أو موضوعاته من الزاوية الشريرة فيها لا الخيرة، بحساسية رهيفة تجعل القيمة المضيئة حاضرة عبر "مقلوبها" المعتم، فى ما يمكن أن نسميه "شعرية المعاكسة".
ومنها رسم بعض المشاهد بصيغ تصلح لأن تكون تمثيلاً لتوجه الشاعر جمالياً، كأن يرصد أن الصبى والفتاة يخططان كيف يتجنبان المفرمة التى تنتج مواطنين لهم ملامح متطابقة.
وهى صورة تنطوى على إدانة صارخة للنظام الاجتماعى السياسى الثقافى، وتنطوى كذلك على شوق فنى إلى تجاوز التشابه والتماثل والتنميط.
ومنها أنه لا يتحرج من "الحكمة" أو من إطلاق مقولات تأخذ شكل المأثرة أو الأمثولة، كأن يقول:
"هنا أطفال يطوحون بأطواق
من الكاوتشوك
متخيلين المستقبل على هيئة شاحنة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق