الأحد، 23 أكتوبر 2011

مئوية بابلو نيرودا تعالوا لتروا الدم في الشوارع

مئوية بابلو نيرودا تعالوا لتروا الدم في الشوارع
حلمي سالم الحوار المتمدن - العدد: 954 - 2004 / 9 / 12
المحور: الادب والفن



قبل مئة عام ولد رجل "له وجه مدهش، كغجري مصقول، ومن يدري لعله ابن اميرة اراوكانية، ومصارع ثيران من رندة"

هذه كلمات غارثيا لوركا في وصف بابلو نيرودا، شاعر تشيلي العظيم، الذي رحل عن عالمنا عام 1973 بعد الانقلاب العسكري على حكومة الليندي الاشتراكية، والذي حصل على جائزة نوبل للادب قبل رحيله بعامين (1971) ورندة مدينة في جنوب اسبانيا، ذات طابع اندلسي خالص، مازالت تحتفظ به، واليها ينسب عدد من شعراء الاندلس العرب، وتشتهر بالموسيقى والرقص والفرسان والغجر

ترك نيرودا نخبة باهرة من الدواوين الشعرية منها: اغاني الشفق، طفولة وشعر، الرامي بالمقلاع (هل كان يتنبأ بثورة اطفال الحجارة في فلسطين؟) القمر في التيه، اغاني العناصر، عشرون قصيدة حب واغنية يائسة، الاقامة في الارض، اسبانيا في القلب، محاولة الرجل غير المحدود، النشيد العام، سيف اللهب، وقدم كتباً نثرية، منها: صفحات من اناتول فرانس، المواطن وامله، خواتم، لكن اهمها جميعا كانت سيرته الذاتية"اشهد انني عشت".

يرى لويس عوض ان بابلو نيرودا هو اعظم شاعر في الاسبانية منذ لوركا، وهو من جيله تقريباً، فلوركا ولد عام 1898 (العام الذي ولد فيه طه حسين) ونيرودا ولد بعده بست سنوات عان 1904 (العام الذي مات فيه محمود سامي البارودي) وكلاهما ينتمي الى اليسار الناطق بالاسبانية مع فرق واحد، هو ان لوركا قتله الفاشست الاسبان رمياً بالرصاص في الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936، اي وهو دون الاربعين، بينما نيرودا عمّر حتى ناهزالسبعين ويبدو ايضا انه مات مقتولا، فقد وجدوه في داره ميتاً، بعد اسابيع قليلة من الانقلاب العسكري الذي اطاح بنظام الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، ووجدوا اثاث بيته مهشماً، مما يوحي بأنه كان القنيصة الكبيرة الثانية بعد مصرع الرئيس الليندي، لانه كان البديل الطبيعي لرئاسة جمهورية تشيلي بعد الليندي، ولأنه كان الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي التشيلي.

بدأ نيرودا عمله الديبلوماسي مبكراً، قنصلا لبلاده في اقطار آسيوية عدة، ثم زار اسبانيا التي هي في القلب، وكانت نقطة التحول في حياته هي الحرب الاهلية الاسبانية وانقضاض الفاشيين على الجمهوريين والشيوعيين وإعدام صديقه لوركا، منذ ذلك التاريخ انحاز نيرودا الى الجمهوريين، وفقد عمله في السلك القنصلي مؤقتا، وانتقل الى باريس حث اسس جماعة "الامريكان الاسبان" التي بسطت رعايتها على جيلين من كتاب امريكا اللاتينية وهذه هي الفترة التي كتب فيها ديوانية "الاقامة في الارض" و"اسبانيا في القلب": "تسألون: لماذا في شعره/ لا يتحدث عن الاحلام عن الاوراق.

عن البراكين العظيمة في وطنه الاصيل؟

تعالوا لتروا الدم في الشوارع

تعالوا لتروا الدم في الشوارع".

في نفس عام صدور "اسبانيا في القلب" ترجم الى الفرنسية، وكتب مقدمة الترجمة الشاعر الفرنسي الكبير لويس اراغون "لقد اخترنا هذا الديوان، ذا الصفحات القليلة، كمقدمة عملاقة لأدب العالم كله. ولست اشك في ان الشبان الذين سيقرؤون ترجمته الفرنسية سيحسون بالرعشة التي احس بها جيلي وهو يقرأ الشاعر ابو للينير (1880- 1918) وكم اتمنى ان تبلغ هذه الترجمة قلوب الذين قدوا من صخر. ان فيه هذه القوة التي تسقط الاسوار بالغناء".

وفي عام 1938، كانت برشلونة تمثل الصخرة الصامدة في مواجهة الفاشية، وتقاوم بعنف على نحو ما كانت مدريد تقاوم قبلها، فقام الشاعر المالقي مانويل التوجير (1905- 1959) وكان احد المقاومين بها، بإعادة طبع الديوان، مرة اخرى، وهي طبعة فريدة في تاريخ الطباعة، يحكي لنا التوجير القصة بقوله كان الجنود في الجبهة هم الذين صنعوا الورق الذي طبع عليه الديوان، لم يستخدموا في صنعه المواد الاولية من القطن والخرق القديمة التي امدتهم بها القيادة فحسب، وانما اضافوا "الى العجينة" المستخرجة منها، ملابس الجنود الذين سقطوا دفاعا عن المدينة، ومن فضلات الحرب، ومما غنموه من الاعداء، راياتهم، قمصان الجنود المساجين، صنعوا من كل ذلك الاوراق التي طبع عليه الديوان، وتولى الجنود جمع حروفه، وكانوا هم الذين تولوا طباعته ايضا (د.طاهر مكي: نيرودا شاعر الحب والنضال).

"النشيد العام" يتحفك- كما يقول لويس عوض- باشياء غير مألوفه في شعر الشعراء الذين نقرأ لهم من أي مدرسة من مدارس الادب، فلا هو بالشعر الكلاسيكي الاتباعي، ولا هو بالشعر الرومانسي الاتباعي، ولا هو بالشعر الرمزي، ولا هو ينتمي الى تيار معروف من تيارات الادب وصاحبه "نيرودا" يسميه الشعر "الواقعي" وربما كان اقرب نوع من انواع الشعر نعرفه له في تاريخ الادب هو ما نسميه عادة بالشعر "التعليمي"، وهو مدرسة ذات تقاليد قديمة في تاريخ الادب.

على ان اهم ما نتعلمه من شعر نيرودا هو قوله انه اكتشف ان ليست هناك لغة للشعر ولغة للعلم ولغة للحياة اليومية، فكل الاسماء والمسميات تصلح خاصة للشعر، الحديد والنحاس والفحم والكوبالت والبازلت تصلح خامة للشعر تماما مثل الزهرة والجدول والايك والفنن والطائر المغرد. وليست هناك حواجز بين الشعر والحياة اليومية.

"في سنة 1945 وقفت اخطب وألقي بعض قصائدي في اجتماعي سياسي، كان عددنا يقترب من مئتي شخص، واذا بي اسمع ضجة آليات تقترب، وعلى بعد اربعة امتار او خمسة مني وقفت دبابة عسكرية، ثم اطل منها رشاش توصيبه نحو رأسي، وظهر قرب الرشاش ضابط متأنق، لكنه جاد وصارم الى ابعد الحدود واقتصر هذا الضابط على توجيه نظرات عينيه الى بينما كنت اتكلم. وكان ذلك هو كل شيء (هكذا تكلم نيرودا في مذكراته الفاتنة "اشهد اني قد عشت" (ترجمة محمود صبح) وهي المكرات التي خصها الناقد رجاء النقاش بسلسلة متتالية من المقالات في جريدة "الاهرام " قبل سنوات قليلة.

وقد انتهى النقاش في مقالاته الى ان هذه المذكرات اثبتت له حقيقتين كبيرتين: الاولى هي ان الشعر ضروري للنفوس السليمة مثل ضرورة الخبز. والثانية هي ان الشعر "قوة" قد تفوق احيانا قوة الدبابات والمسدسات والبنادق. "آه مما اعرف، ومما تعرفت عليه"

ومن بين كل الاشياء

فإن الخشب افضل اصدقائي".

طريق الشعب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق