الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

نصر حامد أبوزيد كدح اليد والعقل.. وريث المعتزلة وابن رشد

نصر حامد أبوزيد كدح اليد والعقل.. وريث المعتزلة وابن رشد


الأهالي : 08 - 07 - 2010



رحل نصر حامد أبوزيد، بعد وعكة صحية ذات وطأة، ليتوقف عن لقاء تلاميذه وقرائه ومحبيه ولتتوقف إسهاماته العقلية النابضة.
ونصر حامد أبوزيد هو صاحب أشهر قضية «تفريق» بين الزوجين في العصر الحديث، ربما لم تسبقها
سوي قضية تفريق الشيخ علي يوسف عن زوجته، في العشرينات من القرن العشرين، «لعدم التكافؤ» الاجتماعي، فقد كانت زوجته صفية السادات «التي تزوجها عن رضا منها وقبول» ذات حسب ونسب، وهو مجرد شيخ وكاتب فقير، مما يختل معه التكافؤ الاجتماعي «في رأي رافعي القضية من أهلها ذوي الحسب والنسب».
لكن قضية نصر حامد أبوزيد التي تفجرت في منتصف التسعينات الماضية، كانت «الزلزال» الأكبر الذي هز الحياة الفكرية المصرية والعربية، وجسدت حلقة مشتعلة من حلقات الصراع الحاد بين تيار الجمود والنقل والقمع وتيار التجديد والعقل والحرية.
نصر حامد أبوزيد «لمن لا يعرف»، هو مكافح عصامي فريد، قبل أن يكون مفكرا إسلاميا مجددا مستنيرا، ولد في إحدي قري طنطا (10 يوليو 1943)، في أسرة بسيطة، لم تتمكن من أن تنفق علي دراسته الجامعية، فعمل بدبلوم الثانوية الصناعية في هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية، ثم حصل علي الثانوية العامة، فليسانس الآداب، فمعيد بكلية الآداب، ثم أستاذ بها، ليصبح «بعرق يده وذهنه» واحدا من المفكرين العقلانيين البارزين في ثقافتنا المعاصرة، وليصبح أستاذا زائرا بجامعة أوزاكا باليابان، وأستاذا زائرا بجامعة ليدن بهولندا، وأستاذ كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام بجامعة أوترخت، وليفوز بجائزة عبدالعزيز الأهواني من جامعة القاهرة، ووسام الاستحقاق من رئيس جمهورية تونس، وجائزة اتحاد الكتاب الأردني، ثم جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر ببرلين.
الفتي، كذلك، واحد من «شلة الغربية» المباركة التي أهدت حياتها الثقافية رهطا مميزا من أبناء جيل واحد «تقريبا» في النقد والأدب، مثل: جابر عصفور ومحمد صالح وفريد أبوسعدة ومحمد المنسي قنديل وجارالنبي الحلو وفاروق خلف وفوزي شلبي وسعدالدين حسن وغيرهم.
كان نصر حامد أبوزيد قد تقدم في عام 1994 ببحوثه إلي لجنة الترقيات بجامعة القاهرة للحصول علي درجة «أستاذ»، فأصدرت لجنة الترقيات تقريرا يتهم نصر وأبحاثه بالكفر والإلحاد والخروج عن ثوابت الإسلام، وسرعان ما صارت القضية معركة ثقافية فكرية، طرفها الأول دعاة الكبت والظلام، وطرفها الثاني دعاة الحرية والضوء، استند أهل الكبت والظلام إلي قانون «الحسبة»، ليفلحوا في أن تصدر المحكمة، التي استندت هي الأخري إلي مرجعية دينية، حكما بالتفريق بين المفكر «المرتد» وزوجته د. ابتهال يونس وهي أستاذة جامعية، وحينها ترك المفكر المجتهد وطنه ليعيش في المنفي بهولندا، يدرِّس في جامعاتها ويواصل عمله الجاد، في مناخ علمي يحترم العقل والإنسان.
من غرائب هذه الواقعة أن الشيخ الدكتور عبدالصبور شاهين كان أحد أعضاء لجنة الترقيات التكفيرية، وأبرز قادة حملة اتهام أبي زيد بالارتداد، سرعان ما دار عليه «سيف الحسبة» الذي رفعه علي رقبة أبي زيد، فلم تكد تمر ثلاث سنوات حتي تم تكفير عبدالصبور شاهين نفسه، من رفاق الظلام السابقين واتهامه بالارتداد، بعد إصداره كتاب «أبي آدم»، وكأننا نجد مصداقا لقول الرسول الكريم «من كفَّر أخاه، فقد باء بها»، أي عادت الفعلة الشائنة إليه وانقلبت عليه، أو كأننا نجد مصداقا للقول المأثور، بتصرف: «من كفَّر كُِّفرَ ولو بعد حين»، ولم يدافع عنه سوي العقلانيين المستنيرين، الذين كان يكفرهم بالأمس، والذين دعموا حريته في إبداء فكره، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق في هذا الفكر، وبعيدا عن الخطأ والصواب، انطلاقا من أن المجال الطبيعي للاختلاف واتضاح الخطأ من الصواب هو السجال الفكري، وليس التكفير أو ساحات المحاكمة أو المصادرة أو الإقصاء.. أصدر أبوزيد «الذي رحل قبل عيد ميلاده السابع والستين» بخمسة أيام، كتبا عديدة من بينها: الاتجاه العقلي في التفسير، فلسفة التأويل، مفهوم النص، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نقد الخطاب الديني، المرأة في خطاب الأزمة، النص السلطة الحقيقة، دوائر الخوف، الخطاب والتأويل، هكذا تكلم ابن عربي، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، التفكير في زمن التكفير، القول المفيد في قضية أبوزيد.
لقد ثارت ثائرة السلفيين وأهل الجمود والكبت علي نصر حامد أبوزيد لأنه طالب بالتمييز أو «الفصل» بين الدين والخطاب الديني، وهو تمييز يتعارض مع مصالح هؤلاء السلفيين ويقوض سطوتهم اللاهوتية كوسطاء ضروريين بين العبد والرب.
دعوة مفكرنا هي أن «القرآن» مقدس، لكن طرائق قراءة القرآن غير مقدسة، لأن فهم النص مسألة بشرية، تخضع للأهواء وللمصالح وللكفاءة الذهنية والدرجة المعرفية والانتماءات السياسية أو الاجتماعية، وإذا كان فهم النص المقدس عملية بشرية، فهو من ثم يخضع للمناقشة والمساءلة والفحص والنقد والنقض، أي لكل ما يخضع له كل جهد بشري يخطئ ويصيب.
لذلك هاجم أبوزيد كل قراءة حرفية ضيقة للنص المقدس واعتبرها قراءة مغلقة أو ناقصة أو مغرضة أو معطلة للتقدم البشري، وفضح الأغراض السياسية أو الطبقية أو الذاتية وراء مثل هذه القراءات الحرفية الضيقة، كما عارض تحول القراءات البشرية للنصوص المقدسة إلي نصوص مقدسة هي الأخري.
دعوته، إذن، هي القراءة التأويلية المفتوحة والمنفتحة علي التعدد والتنوع، هذه القراءة هي التي تنهض علي الاتجاهات العقلية، وعلي المجاز وتكاثر التأويلات، ولا تنهض علي العسف الأحادي المؤدي إلي التسلط والجفاف والإرهاب.
نصر حامد أبوزيد، بذلك، هو أحد ورثة علي بن أبي طالب، رائد التأويل في الثقافة الإسلامية حينما نبه أصحابه إلي أن «القرآن حمّال أوجه» تتعدد وجوهه بحسب وجهة مفسره أو شارحه أو قارئه، إذ «هو سطور مسطورة، إنما ينطق بها رجال»، وهو أحد ورثة المعتزلة في الرؤي العقلانية التي تجعل العيني الضيق مجازيا متسعا، وهو أحد ورثة المتصوفة المسلمين حينما استقل «مركبة بن عربي»، وهو أحد ورثة بن رشد حين دعا إلي الاحتكام إلي تأويل العقل إذا تعارض ظاهر النص مع خبرة الإدراك السليم، موائما بين الشريعة والعقل علي أساس أن كليهما حق «والحق لا يضاد الحق».. هذا المركب العميق المنسجم عند أبي زيد مسبوك في بوتقة «عصرية» تعيش زماننا الحاضر ومصلحة تقدم ناسه المعاصرين، انطلاقا من أن «شرع الله» يوجد حيث توجد «مصلحة» الإنسان.
تحية طيبة إلي روح «الغرباوي»، عامل اللاسلكي، مجاور السيد البدوي، الذي صار بالإرادة وإعمال العقل واستنفار طاقة الخلق عند المخلوق، واحدا من فاتحي باب «الاجتهاد» علي الشمس والهواء، بعد أن كان السلفيون النقليون قد ظنوا أنهم أغلقوه ورموا مفتاحه في بحر الظلمات، وبطاقة الخلق عند المخلوق، هذه، سيغلب نصر مرضه، ويمارس عليه عملية «تأويل» منفتحة، لصالح الحياة، وصحة الجسد والعقل، لق دهزم نصر حامد ابو زيد السلفيين وانتصر للعقل والإنسان ولكن المرض اللعين غيبه عن عالمناجسدا ليبقي فكرا ينير الطريق للساعين نحو الحق والخير والجمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق