الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

ليس كل سالف خراباً وليس كل تمرد ثورة


ليس كل سالف خراباً وليس كل تمرد ثورة
بقلم: حلمي سالم
الشاعر الحديث هو ابن نفسه، وابن عصره، وابن تراثه، الوطني والإنساني، في آن. هو ابن حرية، حريته، وحرية الوطن، وحرية الإنسان، وحرية المخيلة، فمخيلة الشاعر الحديث هي المخيلة المحررة من كل قيد : قيد العادة، قيد المألوف، قيد الموروث. المخيلة الجريئة المجترئة، الطائرة على كل الأزمنة ، وكل الأمكنة، وهي في كل ذلك مصفاة لشوق عصر شاعرها ومواطنيه.
ومن هنا، فإن الشاعر الحديث، ليس له موضوع. أي ليس له موضوع محدد. موضوعه هو نفسه : أغوارها، أهواؤها، تجوالها الخرب والجميل، موضوعه هو العالم كله، بأزمنته، الماضي والحاضر والمستقبل. صراع ذاته مع ذات العالم، سيرة النفس وسيرة الكون، صغائر النفس وصغائر الحياة.
ليس الشاعر الحديث خطيباً أو واعظاً أو مصلحاً اجتماعياً أو أخلاقيا أو سياسياً. ولهذا تبتعد موضوعاته عن الحكمة والدور البليغ. لتلتصق بتفاعل ذاته. ووجود ذاته في العالم.
إن هذه المفاهيم الجديدة والواسعة أعطت فرصة كبيرة للزيف والادعاء، عبر الاستتار خلف هذه القيم غير التقليدية. والحق أن تمييز القصيدة الحديث عن غيرها التي تدعي هذه الصفة، هو عمل النقاد بالدرجة الأولى. لكنني أفترض بعض العناصر، التي إذا لم تتوافر في القصيدة، كانت حداثتها مصطنعة، مزيفة، مدعاة.
من هذه العناصر الفارقة :
أ - أن تكون حداثتها منبثقة عن معرفة وافية بالأصول والأدوات الأولى المؤسسة، لا تهرباً منها أو عجزاً عنها.
ب - أن تكون حداثتها غير معتاشة على منجزات حداثية معاصرة أو سابقة. فالتقليد ليس فقط في اقتفاء خطى الكلاسيكيين، بل هو كذلك في اقتفاء خطى الحداثيين.
جـ - أن تكون - مع تجديدها الفني - حارة، غير مصمتة، حية بحرارة الخبرة الإنسانية الملموسة.
د - ألا تكرر تجارب الشاعر نفسه، وتعيد إنتاجها مرة بعد مرة. فالتقليد، ليس اتباع الآخرين فحسب، بل اتباع الشاعر لنفسه، واجترار تقنياته وأساليبه وطرائقه.
الشاعر الحق، قُلبّ دائماً : على العالم، على تجارب الشعر السابقة والراهنة، وعلى نفسه.
وإذا لم تتوافر هذه العناصر الفارقة في النص كانت القصيدة تشبّهاً بالحداثة وركوباً لموجتها الدوارة، ظناً بأن غربال الحداثة واسع، وهو - في الحق - أضيق من سم الإبرة.
أعتقد، فعلاً، أن النماذج الجديدة من الآثار الشعرية التي ظهرت في أواخر السبعينات وكل الثمانينات في جددت شباب القصيدة العربية الحديثة.
إن هذه النماذج الكبيرة - أولاً - قد أخرجت القصيدة العربية الحديثة من خطابيتها التي كانت قد أغرقت فيها - وخاصة بعد 67 - في مناطق عديدة من الوطن العربي. كما أن هذه النماذج الكبيرة - ثانياً - قد أنقذت القصيدة العربية الحديثة من التماثل والتكرار وإعادة الإنتاج والاجترار، الذي وقع فيه كثير من أبناء الجيل التالي لجيل الرواد الكبار، ولم يسلم منه بعض من بقي من الرواد أنفسهم.
كما أن هذه النماذج الحداثية الكبيرة - ثالثاً - قد جددت شباب القصيدة العربية الحديثة، حينما كسرت بناءها الأحادي الاسترسالي الميلودي وهذه صفات البناء الرومانسي، في اتجاه البناء المتعدد المتعرج المركب المتداخل البيلوفوني.
وهذه النماذج الجيدة - رابعاً - قد خلعت القصيدة العربية من قدسية الوزن الخليلي حتى لو كان تفعيلياً فقط كما في تجربة الشعر الحر عند الرواد بما قدمته من تجارب نثرية كاملة، أو بالتداخل بين النثر والوزن. أي أن القصيدة الحداثية -في تجلياتها الحقة- قد اعتمدت مفهوم الموسيقى لا مفهوم الوزن. إن الوزن التفعيلي الخليلي، أحد الصور القاعدية الاجرومية للموسيقى، لكنه ليس كل الموسيقى، التي هي أرحب وأغنى.
كما أن القصيدة الحداثية - أخيراً، مؤقتاً - قد جددت شباب الرمز، حينما أكدت على أن الرمز لا يظل رمزاً إلى الأبد، وإنما هو يصير إلى إشارة وقرار وتقرير إذا استهلك استخدامه وطال تداوله. فراحت تجدد رموزها دائماً، ولا تستنيم لرمز اقترحته، حتى لا تحيله هذه الاستنامة إلى تكلس تقريري مفتضح. ينقسم النقد العربي -تجاه قصيدة السبعينات والثمانينات - إلى خمسة مواقف واضحة:
أ - الأول هو موقف النقد الأيديولوجي، الذي يطلب موقفاً اجتماعياً وسياسياً واضحاً في القصيدة، ولهذا فهو يخاصم التجربة الشعرية الجديدة، حين لا يجد هذا المضمون الجلي بارزاً. فيصفه بالانعزال عن الحياة والاغتراب عن المجتمع والتعالي على الجمهور، ويرى اهتمام هذا الشعر بالتشكيل الجمالي للشعر استغراقاً في الشكلانية وغراماً باللعب اللفظي.
ب - الثاني هو موقف النقد الذي واكب تجربة الشعر الحر في الأربعينات والخمسينات، وسانده وثبت أقدامه. وهذا النقد لا يرى أن هناك ضرورة ولا إمكانية لتجديد الشعر بأكثر مما صنع الرواد. وهو بذلك يقيس الشعر المجدد بسعر الرواد، فيرى أنه لم يعد في القوس منزع وان ما صنعه الرواد هو سقف التجديد ومنتهاه، وبعده الهاوية. وشعر الجدد - عند هذا النقد - هو الهاوية التي سقط فيها الشعر من حالق.
جـ - الثالث هو موقف النقد الأكاديمي أو المدرسي، وهو الذي كان ضائقاً في الأصل بتجربة الشعر الحر، إذ لا يرى الشعر. إلا كما قال القدماء، ويتحسر على ما آل إليه الشعر من فساد بتركه الوزن إلى التفعيلة وبطرقه الموضوعات القومية أو الحياتية التي طرقها الشعر الحر. وهو في أحسن الأحوال : أي في حالة قبوله الشعر الحر - يرفض أي إضافة تجديدية عليه، ويرفض في كل الحالات اجتراء الشعراء على اللغة العربية المقدسة وعلى الخيال العربي المألوف، وعلى الموروث الشعري والنقدي. هذا الاجتراء الذي أكل من هيبة الشعر وجلاله !
د - الرابع هو النقد الصحافي، الداعي للسهولة والتسطح والمسايرة الفارغة، والذي يرى الشعر زجلاً خفيفاً أو لطائف ضاحكة أو نوحاً غنائياً تافهاً. وهو يرفض تجربة الرواد، ومن باب أولى تجربة الحداثيين في السبعينات والثمانينات.
هـ - الخامس هو النقد الحداثي، الذي يرى الشعر ظاهرة نوعية، ويرى أن واجب الشاعر هو واجب تشكيلي في المقام الأول، وأن المعوّل في النص هو على طرائق صوغ الموقف من - وفي - العالم، لا فقط على فحوى هذا الموقف، وأن لكل نص قوانينه الداخلية التي ينبغي اكتشافها منه لا إسقاطها عليه من عل أو من خارج. وهذا النقد هو الذي يحاول اليوم تقديم وتدعيم تجربة الحداثة وتأكيد مواقعها وكشف خصائص نصوصها الشعرية من داخلها، واستخلاص دلالاتها وفحواها من قلب النص، وإضاءة العلاقة الداخلية الجدلية بين شكل القصيدة ومضمونها، وبين النص والواقع.
كثيرة هي المجموعات أو الاتجاهات الجماعية التي لعبت دوراً كبيراً في تذوقي الشعري. أذكر على سبيل المثال - من شعرنا العربي - جماعة الصعاليك، ثم جماعة المتصوفة، ثم جماعة أبوللو، ثم شعراء المهجر العرب. وأذكر - من الشعر الغربي - جماعة شعراء السريالية الغربيين.
ولقد ساهمت - كذلك - أعمال نقدية كثيرة في تشكيل وعيي الشعري، أذكر منها - على سبيل المثال - كتابات السرياليين، وكتابات جارودي ماركسية القرن العشرين، وضرورة الفن لفيشر والشعر والتجربة لماكليش وكتابات د. عبدالمنعم تليمة وأدونيس.
أنا - فعلاً - واحد من أعضاء الجماعة الشعرية المصرية الشابة إضاءة 77 التي تكونت عام،1977 وأًدرت مجلة شعرية بنفس الاسم، خرج منها 14 عددا، وحملت رؤانا الشعرية - نقداً وإبداعاً - في وقت كانت المنابر الأدبية الرسمية مغلقة في وجوهنا : سياسياً وجمالياً وشعرياً.
وأنا مع تكوّن الجماعات الشعرية، لأنني - من الناحية الفكرية - أؤمن بتشكيل الجماعات والتنظيمات المستقلة عن السلطة، وخاصة إذا كانت هذه الجماعات الشعرية - وهذا شرط وجودها - تحقق نوعاً من التفاعل الخصب والتواصل المجدي بين شعرائها من ناحية، وإذا كانت تساهم في تشكيل وبلورة تيار شعري جديد من ناحية ثانية، وإذا كانت لا تطمس الخصائص الفردية التي تميز كل شاعر من شعرائها عن زميله، بل تزيد هذه الخصائص تبلوراً واتضاحاً ونضوجاً، في صياغة راقية وجدلية بين الوحدة العامة التي تجمع شعراءها و التنوع الذي تتباين فيه تجارب الشعراء بملامحها المتفردة.
وأعتقد أن جماعة إضاءة 77 قد نجحت طوال عقد فاعليتها 77 - 87 في تحقيق هذه الشروط. وأرى أن الواقع سيظل دائماً محتاجاً لمثل هذه الجماعات طالما حققت الشروط السابقة، وطالما أدركت أنها : لست حزباً بالمعنى العصبوي أو الأيديولوجي، وليست أفراداً مشتتين في نفس الوقت.
الشعر كياني. وهو دفاعي الخاص عن نفسي، وأسلوبي في صيانة نفسي من القبح والخيانة والسقوط. وهو أداتي في حماية ذاتي من الجنون أو الدمار. وهو مساهمتي في أداء واجبي تجاه الحياة.
أ - ليس هناك جيل شعري. هناك تجربة فنية أو تيار فني. والجيل لا يعدو أن يكون مصطلحاً للتمييز الإجرائي، وهو تعبير غير دقيق. وهو يقال مثلاً عن السبعينات للإشارة إلى هذه الموجة من الشعراء الذين يقدمون تجربة مغايرة لتجربة جيل الرواد، لا لجمع أبناء الجيل كله في تصنيف واحد. فبين شعراء جيل السبعينات من يكتب بطريقة البحتري أو أحمد شوقي أو ناجي أو عبدالوهاب البياتي.
ب - الرواد بالمعنى اللغوي هم المبتدئون مسيرة أو طريقاً أو حياة. ونحن نستخدمه بالمعنى الشعري - حالياً - للإشارة إلى الكوكبة التي قادت تجربة الشعر الحر في الأربعينات والخمسينات. لكنه بالمعنى الفني الحق يعني كل من راد طريقاً لم يُسبق. وعليه فإن بين شعراء السبعينات والثمانينات رواداً حقيقيين فتحوا سبلاً وشقوا دروباً جديدة.
ج - الآباء الشعريون هم المصادر أو المراجع الفنية والجمالية للشاعر، بصرف النصر عن العصر أو الوطن. وعليه فمن الممكن أن يكون فاليري ورامبو من آبائنا الشعريين مثلهما مثل الحلاج وأبي تمام وجبران والسياب.
د - التمرد على السالف تعبير مخادع، لأنه يمكن أن يكون في بعض الأحيان نزوعاً عدمياً، إذا فهم على أنه انقطاع كامل عن كل السابق، فليس كل سالف خراباً، إذ فيه ما يصلح أرضاً، أو منطلقاً. كما أن ليس كل تمرد ثورة، ففيه ما يمكن أن يكون انخلاعاً في الفراغ وعجزاً عن الأصالة والإنجاز.
إن شرط التمرد الصحيح على السالف هو إدراك جدل الانقطاع والتواصل : فالانقطاع التام عدم ومستحيل، والتواصل التام اندماج وسلفية.
آقراني كثيرون، وهم كل شعراء التجديد في الشعر العربي. وأخص منهم - بغض النظر عن الأعمار - قاسم حداد وحسن طلب ومحمد بنيس ويعقوب المحرقي وعبدالمنعم رمضان وأمجد ناصر وسيف الرحبي وأدونيس ويوسف رزوقة ونوري الجراح ومحمد عفيفي مطر وخزعل الماجدي وسماء عيسى وعلي الدميني ومحمد بن طلحة وعلي قنديل وسعدي يوسف وعبدالله زريقة، وغيرهم كثيرون.
وبعامة، فإن أقراني هم كل من يضيف جديداً، ممتعاً، حاراً، في آن.
نصوص
فهرس
تقفُ البدائيات قرب سفائن الشحن المرام،
أتى الصدام المرتجى يا ينت،
دست رأسها جنب الحقائق
وهي تغلب فكرة
رفت على شفة المؤرخ،
كأن رأس المال متسقاً مع
العنق المنزل،
صار جمر الكاشفات خبيئهن
محركاً للموريات
وجلد بنتي مرهفاً
بالكهرمان،
أنا وأنت مؤيدان بمحنة من
صنع باب النصر،
تقرأ سيدات فهر الموت :
المودة مدية،
سمانة الساق العلوّ،
لسان عاشقة فصوص.
عندنا بات المصب مفخخاً
بالضارعات
وبيت أمي مائلاً بالمشترين
المنحل الخلفي،
يمشي نحو معرفة الودائع
طائعاً مثل المكلف بالجلاء،
هنا الدساتير التي ما مستها
أرق الرغائب يا نجي
فهاك مملكة :
عليك عقيدة السينية، الجسد
الطليعة، عزلة
الملكات، ميرامار، أقداح
البهائيين، ظل كبائن
التجار، وجد اللائمين على
الهوى جدل الطبيعة،
يخت فاروق المغادر، عرى
عابدة محررة، مساءلة
الحداثة، قتل ديك الجن،
معجزة النهوض من
الرماد، شهية المتنورين، الأم
يسعى في مناكبها الوصال
المرتجى يا بنت،
ليس الماس سفراً،
ليت أمي راقبت ميزان
سكرها المطفف في الدماء
ولم تضئ.
لم يتخلص النقد العربي من ذاكرته
المريضة وإيديولوجيته البائدة
العلاقة بين الشاعر وقصيدته هي من أكثر العلاقات غموضاً وسحراً إذ تحاط هذه العلاقة بطقوس في ظروف غير عادية تؤدي إلى مواجهة فعالة وحقيقية بين الشاعر وقصيدته. إنها لحظة تعر كاملة وفضح مشروع للقصيدة والشاعر، غير أن هذه الطقوس والشعائر تفقد أهميتها عندما تأتي مفتعلة من أجل خلق هوة مفتعلة بين القصيدة وقارئها كحماية لها أو لأقل كحماية لسرها الهش. فعندما يحاول الشاعر إخفاء طقوسه وشعائره عن الآخرين خوفاً على قصيدته من التقليد نجد المقلد يفعل العكس فهو يشي بهذه الطقوس ويكسب قصيدته هيئة بطولية وهمية كي تجد لنفسها مكاناً ليس مكانها أو لتعتبر الإنجاز الملطوش إنجازها، إن الشاعر الحديث إنسان عادي في حدود الاجتماعي، لكنه غير عادي ضمن الإطار الإنساني حتماً. إن علاقة الشاعر الحديث بقصيدته علاقة خاصة غير صالحة للنشر في الصحف والمجلات والمقاهي والمجالس لأن الشاعر الحديث ليس خارقاً في المنظور الاجتماعي ولا طموح له كي يكون كذلك. إنه خارق حقيقة لحظة الكتابة.. وهذا الأمر سر. الشاعر الحديث ليس محدداً بسمات مرحلة معينة أو بمعايير نقاد معينين، إنه تجدد باستمرار ومشترك في معارك عنيفة باستمرار، وغالباً ما تكون أهم هذه المعارك مع ذاته. لا يمكن أن نسمي الشاعر الحديث لأنه يفلت من التسمية إلى ما هو أبعد منها وهكذا.
أما القصيدة الحديثة فتدلُّ على نفسها ببساطة، تخاطب حواسك كلها وكذلك خيالك ومعرفتك. إنها قصيدة حديثة بقدر ما نلمس حرارة التجربة الشخصية فيها، وهي قصيدة مقلدة ومدعية كلما لمسنا تجارب الآخرين ممسوخة فيها. إن الشاعر الحديث ضد كل شيء من أجل لا شيء أو فلأقل من أجل المجهول الذي إذا تحول إلى معلوم أو شيء يفقد بريقه. الشاعر الحديث لا يتعامل مع المعلوم لأنه ببساطة مكتشف لا يقبل أن يطرق باباً طرقه الآخرون. أما نظرته فهي طريقته في الاكتشاف وخاصة اكتشافه لذاته لأنها مادته الأكثر أهمية والتي من شأنها أن تمنحه خصوصية وفرادة بينما ترتبط مخيلته بلغة نصه وتتماشى مع براهين إبداعية لاكتشافات هذه المخيلة. وتبقى موضوعاته إنجازاً شخصياً له كلما حاول أن يكسب هذه الموضوعات الكثير من روحه ومعرفته وحساسيته الخاصة لأن موضوع الشاعر هو الذي يكشف مدى معرفته.
لقد استطاعت الآثار الشعرية التي ظهرت في الثمانينات أن تضيف بعض التفاصيل الدقيقة وذلك في بداية الثمانينات، غير أنها لم تتعد حدود تشذيب نصوص السبعينات. أما الإضافات الحقيقية والتغيرات الجوهرية فقد أكدتها نصوص النصف الثاني من الثمانينات. فقد حاولت هذه النصوص إلغاء دور الشاعر / الداعية، كما حاولت أن تغير العلاقة بين الشاعر والقارئ من حالة خطاب أحادية بطلها الشاعر وقصيدته التي لا يشق لها غبار إلى حالة حوار وبالتالي باتت قصيدة الثمانينات تحدد قارئها وتختبر معرفته وحساسيته ذائقته. لقد تجاهل شعراء الثمانينات الصراع الواهي والمفتعل بين أشكال الشعر العربي وانصرفوا عن هذه المجالس مما منح نصوصهم ثقة عالية وجعلها تقدم اقتراحاتها بعيداً عن التشويش والصراخ.
لا أرى أن النقد العربي الراهن حقق تواجداً فعلاً أمام التجارب الجديدة في الثمانينات لأنه لم يستطع التخلص من ذاكرته المريضة وأيديولوجيته البائدة في التعامل مع هذه النصوص. لقد كثرت الوصاية النقدية في الثمانينات وظهرت أبواب تشجيعية عديدة من قبيل / بريد القراء، إبداعات شابة، كتابات جديدة، أقلام للمستقبل... الخ / مما شجع الأبوي الوصائي ليشكل مدا على حساب النقد الحقيقي. إن نقادنا مازالوا يؤلفون الكتب عن أدونيس والسياب ودرويش متناسين ما حدث في الشارع الثقافي من تغيرات جوهرية، وإذا تطرق أحدهم إلى سليم بركات أو بندر عبدالحميد أو عباس بيضون أو منذ مصري فإنه يمر مرور الكرام ويتعامل معهم بغلاظة الأب الذي هو أصغر ممن يدعي أبوتهم.
هناك قصائد كثيرة لعبت دوراً في تذوقي الشعري ولكن أكثرها تأثيراً على تجربتي كانت قصيدة الجمهرات لسليم بركات التي مازلت أستمتع بقراءتها واكتشافها حتى الآن. كما أحب إيراد قصائد مثل ضيقة هي المراكب لسان جون بيرس والقصيدة المارقة لأنسي الحاج و الأجراس لبندر عبدالحميد و في بيروت سبح كالإنكليز لمنذر مصري و مفرد بصيغة الجمع لأدونيس.
أما أبرز الأعمال النقدية التي ساهمت في وعيي الشعري فهناك الشعر التجربة لأرشيبالد ماكليش والشعر والحياة العامة لروزنتال وبعض نصوص بيلينسكي النقدية وكتاب جمال باروت الشعر يكتب اسمه إلى حد ما نظراً لأن هذا الكتاب كان بحاجة إلى متابعة جادة من الناقد نفسه أو لغيره من النقاد لأن هذا الكتاب كان بمثابة البداية لمشروع نقدي هام ولكن للأسف لم يكتمل.
أسئلة مضافة وذيول
لقد وجدنا أنفسنا معاً فجأة في جامعة حلب ومن خلال ملتقياتها لأدبية، ورغم كثرة الأصوات فقد وجدنا لأنفسنا زاوية صغيرة فتحنا من خلالها حواراً طويلاً لم ينته حتى الآن. أنا واحد من محمد فؤاد، حسين بن حمزة، عبداللطيف خطاب، عمر قدور وبسام حسين كانوا يسموننا بشعراء الجامعة عندما نأتي إلي مقهى القصر في حلب وكان البعض يقول عنا الأنبياء الصغار وكان هناك ناقد يتابعنا هو جمال باروت أفاد التجربة واستفاد منها. من هنا أظن أن فكرة الجماعة مهمة في الشعر إذا لم ترتبط بما يمكن تسميته بـ العصابة، فهي جماعة حقيقية إذا ارتبطت بفكرة مشروع ثقافي يطرح أسئلته باستمرار عبر ممثليه ومتابعيه. أما شروط تحقق ذلك فهي مرتبطة بوجود ظاهرة ثقافية ليست بالضرورة مرتبطة بمكان واحد. غير أن انهيار هذه الفكرة يكون أكيداً عندما يقع شخوصها في مطب التماثل الذي يلغي حالة الحوار لصالح الصوت الواحد وهو بالتأكيد نقيض لفكرة الجماعة من أساسها.
لا أعرف إذا كان الشعر احترافاً بالنسبة لي ولكن عندما يسألني أحد ما عن عملي فأنا حتماً لا أقول شاعر ولكنه ليس هواية أيضاً لأنني لا أكتب الشعر في أوقات الفراغ كشأن باقي الهوايات، وهو ليست مشروعاً كيانياً لأنني لا أستطيع أو أواجه أحداً بالشعر وحده، غير أني أريد أن أشكر القدر الذي منحني هذه الصدفة الرائعة، إنه قدر أهوج يختار ضحاياه وأبطاله دون أن يتوقعوا.
أخيراً أحب أن أقول أن الشعراء الأقران الذين أعنى بشعرهم هم كثر وهذا من حسن حظي عبداللطيف خطاب، محمد فؤاد، حسين بن حمزة، بسام حسين، عمر قدور، سمية شيخي، خالد خليفة، بسام حجار، أمجد ناصر، وليد خازندار، كريم عبد، نوري الجراح، هاشم شفيق، خليل
نصوص
الملوك
هواء لكم، تباعدوا قليلاً وأسندوا سقوطي، هواء لكم، تصلون لسمائي، تفرقوا قليلاً ورتبوا كلامي، لا الممالك القديمة تعتق الهواء الذي مر ولا الدول الحديثة تقمع الثورة التي تحتي. هواء لكم، كل قرن أهيئ لكم البلاد وأنتم بالدول البائدة غارقون كلام مدهش لأميركم الطاعن واللاعن أباه.
أوراقه لا تسودها عروش. كلام البرق المرعد، يهيئ لنا ذروة لنتراحم عليها، كلام الغيم للأرض، مساومة على مطر قد يكون، منذ أن بادت الأرض صار للصحارى طعم احتراس ونكهة ذئاب لا تنتهي منذ أن بادت.. صار لنا طعم لغة سرية تشطبها المدارس ويدونها الهواء.
لن تأخذه ورقة ولن تغيبه ريح إلا وللمنصتين أثر فمه الأرعن
لن تميل رقبة إلا ولكم أفق التفاتته
حين تستيقظون وتحصون ممالككم
حين تستيقظ الريح على غيم يستدرجها لشتاءاتكم
حين تحتدمون في صفيره الغائب وتترنحون كلكم
وقتها يا ملوك العراء سأهدهدكم وأحكي لكم عن أباطرة خذلتهم
تيجانهم وعروشهوم ذات يوم قبل الميلاد.
الفجر
رجال من نسائهم، بجلابياتهم البيضاء الناصعة وعقالاتهم الأنيقة يدخنون في الخيام ويقتلعون أوتاد بعضهم عند أو شجار، رجال من نسائهم، يعملون أزواجاً لنسوة، يحمن كالنحلات في القرى ويتباهون بمسدساتهم المعلقة حول خصورهم وحزاماتهم الرابطة أعماراً تتكئ على أفواه فاغرة لنساء فاغرات أمام أبوابنا. هكذا الفجريات المحتلات مدننا الصغيرة بأسنان الذهب وبضاعتهن المكتسبة بشبق الهي، تقف سطول اللبن يائسة من مساومات امهاتنا الثرثارات. وللغجريات ضروب الأنوثة في مخادع آبائنا، وانشغال رباني بترتيب الأجنة الخليطة في أحشائهن، زرقة الوجوه الداكنة المنشغلة عن المرايا بالتجارة وصناعة أسنان الذهب وبيع اللبن واحتمال أعضاء آبائنا الشبقة. كم كان الغجر عارفين بأحوالنا، كم كانوا مزهوين بذهب يلمع في أفواهنا فلتكن للغجر أسئلتي وعلكة الأشجار المطقطقة في أفواه امهاتنا وأخواتنا طيلة النهار.
المهاجرون
عين على الخسارة وسقوط مدو، كذلك كان المهاجرون بعربات الخشب وأوتاد الخيام، لهم ما يحدث وما لا يحدث، فما من فضة ستعلو رنين عجلاتهم وما من صخب سيقتحم صدأ وجوههم. لم يفضحوا الآلهة يوماً، بوجوههم الجامدة يغمزون الله ويسألون البيوت عن طعم سكوتهم المهاجرون من الثورات الفاشلة وزعماء الحركات والعشائر والطوائف، كانو حزانى فلم تنظر إليهم الشمس ولم يرم الأطفال أسنانهم إليها كي تبدلها بأسنان غزال. عين على الخسارة وأخرى على المهاجر وهو يرمي وطنه إلى الشمس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق