الأربعاء، 12 أكتوبر 2011

ثورة يوليو والشعر


ثورة يوليو والشعر
حلمى سالم
يتفق معظم مؤرخى ثورة يوليو/ تموز المصرية - باختلاف اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية - على أن هذه الثورة لم تكن تملك حين قامت «نظرية» واضحة محددة. إذ لم يتعد استنادها النظرى أكثر من برنامج الأهداف الستة، الذى أعلنته غداة قيامها، محتويا على أغراض عامة ستحققها الثورة، مثل القضاء على الملكية وطرد الملك فاروق، وإقامة جمهورية، والقضاء على الإقطاع والاحتكار الأجنبى، وتكوين جيش وطنى، وإقامة حياة ديمقراطية.
والواقع أننا لو تأملنا قمة تنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة، سندرك على الفور سبب عدم قدرة الثورة على طرح أو تبنى نظرية اجتماعية أيديولوجية سياسية معينة، واضحة محددة.
فقد كانت قمة تنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة،، مزيجا من الا تجاهات السياسية الوطنية المختلفة : الإخوان المسلمون، الليبراليون، الشيوعيون، الوطنيون غير المنتمين أيديولوجيا، فكان مجلس قيادة الثورة، بهذا المزيج، أشبه بجبهة وطنية، لا تسمح بتبنى نظرية فكريةو احدة ينتهجها جميع الأعضاء.
كماكانت التركيبة الاجتماعية لهؤلاء القادة من ضباط الثورة تضعهم جميعا فى طبقة البرجوازية الصغيرة الوطنية، بطبيعتها المتذبذبة (بين اليسار واليمين بين الصعود والسقوط) وبوطنيتها ضيقة الأفق وثوريتها قصيرة النفس، وسمتها المصلحية المتبدلة.
تقوم فلسفة التنظيم غير المعلنة، فى كل هذه الأشكال الحزبية، على منهج «الكل فى واحد» لعمل تنظيمات تهيمن عليها السلطة، وتصبح ذراع السلطة فى الضبط والربط والتوجيه والحشد والتبرير والدعاية للقيادة الوطنية وشعاراتها الواسعة .
الثورة والشعر الحر
يمكن الآن أن نعمم منظورنا إلى «ثورة يوليو والثقافة والمثقفين» لنرصد جملة من الظواهر الإيجابية، نلخص بعضها فيما يلى :
1- تأكيد الطابع الاجتماعى فى الفكر والثقافة والأدب، فلقد كان هذا الطابع الاجتماعى فى فكر وثقافة وأدب ماق بل ثورة يوليو 1952 خافتا ثانويا نظرا لسيادة التوجه الوطنى الاستقلالى والليبرالى فى الفكر والأدب والنضال المصرى بعامة، إذ كانت المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية المحورين الرئيسيين فى العمل الوطنى والفكرى السابق على الثورة، ولم تكن المسألة الاجتماعية - فى العمل السياسى أو الأدبى - مطروحة إلا على استحياء فى بعض الممارسات الفكرية للحلقات الماركسية الموجودة على الساحة آنذاك - منذ بداية العشرينيات - وفى بعض أفكار وكتابات بعض الرواد ذوى التوجه الاجتماعى (الرومانتيكى أو اليخالى الطوبوى أحيانا) مثل طه حسين وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمد مندور ولويس عوض.
مع ثورة يوليو، صار البعد الاجتماعى فى الرؤية الفكرية أو الأدبية جذراً أساسيا من جذور النظر الفكرى والجمالى، وانتعش بذلك تيار أدبى كامل، أفسحت أمامه - نسبيا - منابر التعبير والنشر والاتساع، بتشجيع الإجراءات الاجتماعية للثورة، والدعوة التى شاعت نحو فكر وأدب مرتبطين بقضايا وحياة الجماهير والواقع الاجتماعى.
2- وقد نتج عن هذا التجذير الاجتماعى فى الفكر والثقافة تيار الواقعية فى الأدب والفن، فتجادلت مفاهيم وتصارعت رؤى جديدة لتوطد أركان هذا المنهج الواقعى.
وقد دفع هذا التيار عجلة الشعر الحديث (الحر) دفعة قوية، جعلت الكثير من النقاد (مثل لويس عوض وغالى شكرى) يعقدون صلة ارتباط وثيقة بين ثورة يوليو 1952 وازدهار نمو ظاهرة حركة الشعر الحر فى البلاد العربية بعامة وفى مصر بخاصة، حيث يرى بعض هؤلاء المؤرخين النقاد أن ثورة يوليو قد أعطت شهادة ميلاد قوية لتجربة الشعر الحر - صحيح أن مبادئ حركة الشعر الحر قد بدأت قبل الثورة بسنوات قليلة 47-48- وأن لها إرهاصات صغيرة منذ العشرينيات والثلاثينيات، لكن الدفعة القوية التي اندفعها الشعر الحر هى تلك التى بدأت بعد مرحلة 1952، إذ وضعت الثورة أفكار المعاصرة والواقعية والتجدد ا لتى ينهض عليها الشعر الحر موضع الشرعية العملية فى الواقع كله، وصنعت له منابر ومحافل، فتكون له جمهور جديد بعد معارك ضارية مع القديم ورموزه الأقوياء.
وبرز مع الثورة نقاد ومفكرون عضدوا اتجاه الشعر الحر وآذروه، مثل محمد مندور ولويس عوض ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وعبد القادر القط وعز الدين إسماعيل ومحمد النويهى وغيرهم من نقاد شكلوا ترسانة قوية داعمة للشعراء الجدد وللتجرية الجديدة.
وفى المقابل كان شعر العامية يزدهر ويتنامى تياره العريض، منتقلا من إطار «الزجل» السابق إلى إطار الشعر الحديث، ووجد هذا الشعر نقاده الجدد الذين نظروا له وساهموا فى إضاءة الطريق أمام شعرائه، وساعدت الإذاعة على جعل هذا الشعر - عبر الأانى والبرامج - على كل لسان فازدهرت الصلة بينه وبين التغيرات الاجتماعية والسايسيةة والاقتصادية التى تنجزها الثورة فى المجالات المتعددة.
3- كان اهتمام الثورة بالثقافة واضحا فى شتى إجراءاتها العملية المتتالية : إنشاء أول وزارة للثقافة (1958) وكانت غير موجودة من قبل، وتم وضع شعار طه حسين «التعليم كالماء والهواء» موضع التطبيق العملى من التعليم الابتدائى إلى التعليم الجامعى.
(هذه هى الديمقراطية الاجتماعية فى التعليم، لكن نلاحظ حرمان الطلاب من التعبير عن آرائهم أى من الديمقراطية السياسية : اعتقالات 68 بين الطلاب فى الجامعة).
وتلا ذلك إنشاء المؤسسات الثقافية الكبرى مثل هيئة السينما وهيئة المسرح والهيئة العامة للكتاب وأكاديمية الفنون وقطاع الثقافة الجماهيرية لتوصيل الثقافة إلى المواطنين فى القرى وشتى الأقاليم المحرومة من الخدمات الثقافية.
وازدهر مشروع الترجمة والنشر (سلسلة الألف كتاب) وإن عابه الاهتمام أحيانا بالكم على حساب الكيف، خاصة فى أيام عبد القادر حاتم الذى رفع شعار كتاب كل ست ساعات!! وقامت المجلات المتخططة العديدة مثل : الشعر، القصة، التراث الشعبى، الفنون الشعبية، الطليعة، الكاتب، الفكر المعاصر، المجلة، المسرح، وغيرها من مجلات، وسلاسل ثقافية وأدبية كانت تنطلق جميعا من شعار أن «الثقافة خدمة لا سلعة».
كما ازدهر المسرح والسينما ازدهارا ملحوظا، وتحول المسرح خاصة إلى مؤسسة حزبية كاملة (معارضة أو ناقدة فى بعض الأحيان) بحيث صار ذا علاقة حية يومية مع الجماهير، ورأت فيه الجماهير منبرها السياسى الحزبى فى واقع سياسى خلا من التنظيمات الجماهيرية غير السلطوية.
لقد صار المسرح هو البديل عن الحياة الحزبية وعن المشاركة السياسية المفتقدة، وكان ذلك - فى ذاته - تجسيدا للتناقض الذى تعيشه ثورة يوليو!
فمن ناحية، حينما انهار المسرح فى السبعينيات، بعد رحيل عبد الناصر وبدء سياسة الانفتاح الاقتصادى، افتقد الناس التعبير السياسى والحزبى، ولم تفلح الحياة الحزبية المحدودة (المحددة) بعد ذلك، فى أن تصبح بديلا للمسرح أيام الخمسينيات والستينيات (المزدهرة).
ومن ناحية ثانية، وصل التردى الاجتماعى والمسرحى الراهن بالعديد من المثقفين إلى أن يحلموا باستعادة ازدهارات الستينيات المجيدة، على الرغم من أن ازدهارة المسرح فى الستينيات لم تكن أكثر من مجرد «نقد جزئى» من داخل الإطار الواحد، ولم تبلغ مبلغ «النقض الجذرى» للنظام وفلسفته الاجتماعية والفكرية.
وبرغم الطابع «العسكريتاري» للثورة والثوار من ناحية، وبرغم براجماتيتها فى المسألة الدينية ورفعها شعار الدين الإسلامى لتجنب الصدام مع المشاعر الإسلامية من ناحية ثانية، فإن واحدة من أهم إنجازات ثورة يوليو 1952 فى حياتنا الفكرية والثقافية، كانت تأكيد الطابع المدنى العلمانى فى معظم مناحى العمل الوطنى، فمع أنها دعمت الأزهر كمؤسسة دينية شرعية، فإنها قد حولته إلى جامعة مدنية علمانية تدرس الطب والهندسة والبيولوجيا وشتى العلوم «الدنيوية» ولا تقتصر على «علوم الدين» والشريعة والفقه الإسلامى.
وكان تحويل الأزهر إلى جامعة مدنية علمانية عملا ذا دلالة اجتماعية وفكرية وحضارية كبيرة، ذلك أنه أضاف تأكيدا جديدا على أن الثورة الوطنية الديمقراطية المصرية هى - فى حلقاتها السابقة والراهنة - ثورة ذات طابع علمانى باهر، وليست ذات طابع دينى، مؤكدة استمرار وتواصل التراث الوطنى الدنيوى المعيشى - لا الدينى الثيوقراطى- منذ بدايات «محمد على» مع بناء الدولة الحديثة .
فوقة الإجراءات
كانت هذه الملامح الإيجابية تقابلها ملامح سلبية لاتقل عنها أهمية وخطورة، فيما يتعلق بمسألة ثورة يوليو والثقافة، سوف نجملها - كذلك - فيما يلى :
1.    تسبب الطابع التجريبى والبراجماتى للثورة فى خلق ظاهرة غريبة، وهى وجود أقطاب لكل التيارات الفكرية على قمم المؤسسات الصحفية والثقافية : مسئول يمينى هنا ومسئول يسارى هناك، مسئول ليبرالى هناك ومسئول عسكرى هنا. وقد أنتج هذا التخبط جملة من التناقضات الفادحة أهمها أن سياسة وعمل كل مؤسسة كانت تصطبغ بصبغة رئيسها وتنشط فى اتجاه انتمائه السياسى أو طبيعته الفكرية.
2.    فعلى الرغم من دعم الثورة لاتجاهات الشعر الحر، مثلا، وإنشائها مجلة «الشعر» - التى تولى رئاستها الدكتور عبد القادر القط- لترويج هذا الشعر الجديد، كان عباس العقاد - فى نفس الوقت- ما يزال رئيس لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للفنون والآداب، ليؤشر على شعر صلاح عبد الصبور بتأشيرته الشهيرة «يحال إلى لجنة الثنر للاختصا»!! وتصدر لجنة الشعر نفسها، فى نفس الفترة بيانها الشهير ضد الشعر الحر متهمة إياه بتهم الانحراف والقرمطة والشذوذ والعمالة للمخابرات الأجنبية والشيوعية خاصة.
3.    كان من نتيجة ديمقراطية التعليم والاهتمام بتخريج كميات كبيرة من الخريجين كل عام والتزام الدولة بتعيين الخريجين، فى نفس الوقت الذى تقدم فيه الدولة المناهج الدراسية الكلاسيكية التقليدية، أن تدنى الوعى التعليمى والعلمى والفكرى إلى حد رهيب، وهو ما يجعل صوت بعض دعاة النخبوية الرجعية، اليوم، عاليا، فى الدعوة إلى إلغاء مجانية التعليم، وقصره على القادرين والنابغين، ليعود التعليم طبقيا، مثلما كان قبل الثورة، لايقدر عليه إلا الموسرون الأغنياء.
4.    على أن أخطر هذه الملامح السلبية، كان «فقية» الإجراءات الاجتماعية أو الثقافية على السواء. لقد ظلت هذه الإجراءات - بسبب فوقيتها - إجراءات هشة مصنوعة، غير متجانسة مع البنية التحتية أو متولدة منها، مما سهل - معه فيما بعد- تفريغها وتصفيتها والإطاحة بها، بدون أيه حماية جماهيرية : تصفية كل المجلات الثقافية الجادة فى السبعينيات وإحلال مجلات تعيسة محلها، تصفية المؤسسات العامة فى السينما وغيرها من قطاعات.
وحينما انفجرت فى المجتمع كله قنبلة الانفتاح الاقتصادى - فى منتصف السبعينيات - كان من السهل أن تتهاوى هذه الإنجازات الإدارية الفوقية بيسر مذهل، ووصل الأمر إلى حد إلغاء السادات لوزارة الثقافة ذات مرة. وعاد الأزهر إلى ما كان عليه قبل الثورة من دور الرقيب، فتكرر ما فعله عام 1926 مع طه حسين بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى» مع العديد ن الكتب والمفكرين (على سبيل المثال: فقه اللغة العربية للويس عوض، الفتوحات المكية للمتصوف القديم محىى الدين بن عربى، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي لمحمود إسماعيل).

مرثية للعمر الجميل

إذا كانت شهادة صلاح عيسى هى شهادة مثقف مؤرخ فإن «مرثية للعمر الجميل» (1973) هى شهادة مبدع، لشاعر أساسى من شعراء مصر المحدثين، هو أحمد عبد المعطى حجازى.
وإذا كانت شهادة صلاح عيسى هى شهادة جيل الستينيات، فإن «مرثية للعمر الجميل» هى شهادة جيل الخمسينيات، ذلك الجيل الذى ساهم فى بناء الحلم الملون الذى تقوص فجأة ذات صباح حار من صباحات يونيو 1967.
وفضلا عما فى «مرثية للعمر الجميل» من فن شعرى جميل، فإنها - فوق ذلك - تنطوى على قيمة توثيقية وتاريخية ونفسية وثقافية، من حيث إنها تجسد أزمة جيل كامل فى العلاقة المتناقضة المركبة بين المثقفين من ناحية وبين عبد الناصر خاصة والثورة عامة من ناحية أخرى.
كان الحلم كبيرا، ولذلك فقد كان الانهيار كبيراً.
وكانت العلاقة مركبة، لا يمكن اختزالها فى مقابلات أو معادلات بسيطة من تلك التى تلخص، - عادة - «العلاقة بين المثقفين والسلطة، كأن تقول : كراهية ، حب، انتماء، نفى، قبول، رفض، احتواء، وهم، حقيقة، قهر انسجام، عبودية، حرية.
لقد كانت العلاقة هى كل ذلك، مما فى تركيبة معقدة، القاتل فيها قتيل، والقتيل قاتل، والسجين بأمر السلطة يستجير بالسلطة وهو فى أقبية زنازينها، أو يكتب مظلمته فى محبسه، ثم يمزقها حين يرى الموكب الرائع للقائد المفتدى، ويمدحه :
كنت فى قلعة من قلاع المدينة ملقى سجينا
كنت أكتب مظلمة
وأراقب موكبك الذهبى
فتأخذنى نشوة
وأمزق مظلمتى
ثم أكتب فيك قصيدة
وفى هذه العلاقة المركبة تسليم «للمستبد العادل» بعقد اجتماعى فحواه : افعل بنا ما شئت، ولكن أعد للمدينة العدل واطرد الغزاة :
قلنا لك اصنع كما تشتهى
وأعد للمدينة لؤلؤة العدل
لؤلؤة المستحيل الفريدة
وحين لم تعد لؤلؤة العدل (وأهل المدينة غرقى يموتون تحت المجاعة) ولم ينطرد الغزاة (لم تأت، بل جاء جيش الفرنجة فاحتملونا إلى البحر نبكى على الملك)، ت كون المأساة أثقل من أن يحتملها طرف واحد : الزعيم صاحب الوعد، أو الذين آمنوا بالوعد وسلموا له مفاتيح الحياة : حياتهة وحياة الوطن، فالجميع مشاركون فى الخراب :
من ترى يحمل الآن عبء الهزيمة فينا :
المغنى الذى طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه
أم هو الملك المدعى أن حلم المغنى تجسد فيه
هل خدعت بملكك حتى حسبتك صاحبى المنتظر
أم خدعت بأغنيتى.
وانتظرت الذى وعدت به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسراب الزمان الجميل؟
ولقد كان حجازى من أبرز المثقفين المصريين الذين شعروا - بعد 1967- بمسئولية المثقفين فى الهزيمة، حتى وصل به شعوره - بعد العزيمة وأثناء محاكمة العسكريين المسئولين عنها- إلى المطالبة بمحاكمة المثقفين كذلك، لأنهم «قصروا، وهم قادة الحياة، في أداءو اجبهم » مؤكدا أنه إذا كان من أهم الأسباب التى أضعفت قدرة المجتمع على خوض الحرب هو غياب الديمقراطية وجهلنا بحقيقة أنفسنا وحقيقة العدو، فالمثقفون مسئولون، مسئولية مباشرة فى هذا المجال.
وظل هذا الشعور يكمن ويختمر، حتى انفجر على نفسه فى هذا البيان الشعرى المأساوى «مرثية للعمر الجميل» التى هى فى حقيقتها مرثية عصر كامل.
والشاعر لا يكتفى بهذه الاعترافات المريرة كلها، بل يزيد عليها اعترافه بأن جيل الحلم لم يكن حاضر الوعى، فلم يكن يستطيع أن يدرك أن الزعيم الذى بايعه ليس هو الخلاص الحقيقى:
كنت أبحث عن رجل أخبر القلب
أن قيامته أوشكت
كيف أعرف أن الذى بايعته المدينة
ليس الذى وعدتنا السماء؟
إقرار مرير بغياب الوعى والاندماج فى الحلم.
ولكن حين جاء الوعى أدرك الشاعر/ الجيل أن التلسليم الكامل كان أصل الدمار والهزيمة، وأن التضحية بالحرية من أجل العدالة الاجتماعية كانت بداية الدموع، حين جاء الوعى افترق الشاعر/ الجيل عن الزعيم/ الحلم، وحصل الفراق والوداع، الهزيمة والرحيل :
فوداعا هنا يا أميرى
أن لى أن أعود لقيثارتى
وأواصل ملحمتى وعبورى
لقد كانت «مرثية للعمر الجميل» وستظل واحدة من أصدق وأجرأ المرثيات التى قيلت فى رحيل عبد الناصر، أو فى رحيل مرحلة كاملة، ويزيد من صدقها وشجاعتها، مقارنتها بالقصيدة التى كتبها حجازى نفسه إثر رحيل عبد الناصر مباشرة (1970) بعنوان «الرحلة ابتدأت» وقد بلغ من صدق الشاعر مع نفسه أن وضع القصيدتين فى ديوان واحد هو «مرية للعمر الجميل» (1974) على الرغم من تباين القصيدتين :
الأولى : التفانى فى الزعيم المسجى
والثانية : المأساة والوعى وفراق الزعيم.
كانت القصيدة الأولى (الرحلة ابتدأت) تفيض بكل مانعته ونقدته، القصيدة الثانية : التلسليم، الفناء، إعلاء الزعيم إلى مصاف الأولياء والأنبياء. :
أم أنها ليلة الغار التى ستغيب فيها :
ثم تشرف فى المدينة
الإيمان الكامل بأنه يصنع وسيصنع المعجزات، وأنه منقذ الوطن ومنقذ كل فرد على حدة، فلكل ثاكلة جمال،
ولكل مضطهد جمال، استعداد الناس للموت من أجل حياته، الضياع المحدق إذا غاب:
ومن الذى تغدو عيون المريمات على اسمه:
آن المعاد غدا إلى أرض السلام
ومن الذى سيؤمنا فى المسجد الأقصى
ومن سيسير فى شجر الأغانى والسيوف.
ومن الذى سيطل من قصر الضيافة فى دمشق
يحدث الدنيا ويحلهقا ببستان الشام
ومن الذى يسيقيم للفقراء مملكة
وتبقى ألف عام
وعلى الرغم من أن حجازى يذكر أنه شاهد :
آن لا تسألونى جوابا
أنا لم أكن شاهداً أبدا
إننى قاتل أو قتيل
إلا أن «مرثية للعمر الجميل» لا ينبغى أن تضاف - فقط - إلى عيون الشعر العربى الحديث، كما هى حقا، بل ينبغى أن تضاف كذلك إلى عيون الوثائق التاريخية المتصلة بعلاقة عبد الناصر وثورة يوليو بالثقافة والمثقفين.
وثية أساسية من وثائق عصر.
لكنها تختلف عن كل الوثائق التاريخية الجامدة، فى أنها وثيقة من لحم ودم وفجيعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق