الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

أحزان حمورابي












كلمة المحرر
بقلم:حلمي سالم

"أحزان حمورابي" هو مختارات من القصائد المصرية والعراقية والعربية عموما، التي تناولت "المسألة العراقية"، أثناء الهجمة الاستعمارية الأمريكية البريطانية على العراق وقبلها، يقدمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لقارئه، في لحظتنا العربية الحرجة الراهنة، بغرض أن يستطيع ذلك القارئ تكوين صورة إضافية –عبر الشعر- عن المأساة العراقية/العربية التي صارت مزمنة بسبب تكرارها المتكرر، مع ما يمكن أن تتضمنه هذه الصورة (المرسومة بالشعر) من سبل لكسر ذلك الطوق المزدوج: الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي. (أليسا وجهين لعملة واحدة؟).

وواضح أن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان قد حرص –أثناء إعداد هذه المختارات- على ألا يقتصر الاختيار على القصائد التي تتغنى بحرية الوطن العراقي (ومن ثم العربي) منددة بالغزو والاحتلال والاستعمار الخارجي، بل امتد الاختيار إلى القصائد التي تتغنى بحرية المواطن العراقي (ومن ثم العربي) منددة بالقمع المحلي والاستبداد الداخلي. فحرية "المواطن" جزء لا يتجزأ من حرية "الوطن"، إذ "لا حرية لوطن لا حرية للمواطن فيه". ولعل ذلك هو أحد الدروس العديدة، البليغة والمريرة، التي تقدمها لنا المأساة العراقية الراهنة.

وواضح، كذلك، أن هذه المختارات ليست (على عددها الوافر) كل ما كتب عن حرية العراق، وطنا ومواطنا، بل هى غيض من فيض. فلا ريب أن نصوصا عديدة قد فاتتنا أثناء الإعداد. هذه المختارات، إذن، هى تمثيل لا حصر على الرغم من وفرة ذلك التمثيل وغناه، كما أشارت ناقدتنا فريال جبوري غزول، في مقدمتها البانورامية المؤثرة.

والحق أن عنصرا أساسيا من عناصر غنى هذا الكتاب، لا يعود فحسب إلى القصائد المنشورة أساسيا من عناصر غنى هذا الكتاب، لا يعود فحسب إلى القصائد المنشورة فيه، بل يعود كذلك إلى حضور قلم هذه الناقدة العراقية العربية الكبيرة، الذي ضفر هذه النصوص في رؤية نقدية وفكرية كاشفة.
"أحزان حمورابي"، إذن، هى نصوص شعرية عربية يجمعها هم كبير واحد، هو حرية العراق (مواطنا ووطنا: ضد الاستبداد والاستعمار معا)، ولهذا ضمت التيارات الشعرية والاتجاهات الجمالية العديدة، بدءا من العمود التقليدي، مرورا بقصيدة التفعيلة، وانتهاء بقصيدة النثر. وعلى الرغم من أن معيار الاختيار لم يكن "المستوى الفني الرفيع" وحده (إذ زاحمه بالطبع معيار الهم الكبير الواحد) فإن خيطا من الحد الأدنى للمستوى الفني قد ربط الاختيار والانتقاء.

فصار أمام القارئ شريط طويل متنوع، يجمع القصائد التي ترفرف بجمال الفن ورفعته، (فضلا عن رفعة الهم)، مع القصائد التي حملها شرف القضية قبل شرف الشعر، لتصبح اللوحة العريضة غنية الأساليب والمستويات والكفاءات والأجيال، راسمة بذلك خريطة كافية لتجسيد تنوع الوجدان العربي (المماثل لتنوع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي) في لحظة مشتعلة مضطربة.

أما حمورابي، المشرِّع العراقي الأقدم، فإنه ينظر الآن إلى اندحار حقوق الإنسان العراقي العربي بين براثن الاستبداد "الوطني" وبين براثن الاستبداد "الاستعماري" فيفريه الألم، وتبيضُّ عيناه من الحزن، فهو كظيم.

مختارات "أحزان حمورابي" صرخة طويلة ممتدة (من مهدي الجواهري إلى فاطمة ناعوت) ضد احتلال الروح بالنظم السياسية القاهرة، وضد احتلال الأرض برسل الحرية الزائفين.

فهل للصرخة من مستمعين في الأجيال العربية القادمة؟




عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم
وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر
يرجُّهُ المجذافُ وَهْناً ساعةَ السحر...
كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء
دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف
والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء
فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء
ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر

كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم..
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر...
وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر
أنشودةُ المطر
مطر
مطر
مطر

تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعود" -
لا بدّ أنْ تعود
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر
كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك
ويلعنُ المياهَ والقدر
وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر
مطر، مطر، المطر

أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء_ كالدمِ المُراق، كالجياع كالحبّ كالأطفالِ كالموتى –
هو المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق
سواحلَ العراقِ
بالنجومِ والمحار،
كأنها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار

أصيحُ بالخيلج: "يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"
فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تترك الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر
وفي العراقِ جوعٌ
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ… حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا - خوفَ أن نُلامَ - بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع
مطر
مطر
مطر

في كلّ قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنّة الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتيّ واهبِ الحياة
مطر
مطر
مطر
سيعشبُ العراقُ بالمطر

أصيحُ بالخليج: "يا خليج..
يا واهبَ اللؤلؤ والمحار والردى"
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

وينثرُ الخليجُ من هباته الكثار
على الرمال، رغوةَ الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يرُبّها الفرات بالندى

وأسمعُ الصدى
يرنّ في الخليج:
مطر
مطر
مطر

في كل قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنةِ الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكل قطرةٍ تُراق من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدت على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتي، واهبِ الحياة

ويهطلُ المطرُ

تحية إلى بغداد
أدونيس

I
ضَعْ قهوتكَ جانباً واشربْ شيئاً آخر،
مُصغياً إلي ما يقوله الغُزاة:بتوفيقٍ من السماء
نُديرُ حرباً وقائيةّ
حاملينَ ماءَ الحياة
من ضفاف الهدسون و التايمز لكي تتدفق في دجلة والفرات .
حربٌ علي الماء والشّجر، علي الطّيور ووجوه الأطفال.من بين أيديهم،
تخرجُ نارٌ في مساميرَ دُبِبَت رؤوسُها،
وعلي أكتافهم تُرَبّتُ يَدُ الآلة.
الهواء يَنْتحبُ
محمولاً علي قَصَبةٍ اسمها الأرض،
والتّرابُ يَحمّر يَسودُّ
في دَبّاباتٍ وقاذفاتِ قنابل،
في صواريخ َ ـ حيتانٍ طائرة،
في زمنٍ ترتجله الشّظايا،
في براكينَ فضائية تقذف حِممَها السّائلة.
تَمايَلي، بغدادُ، علي خاصرتكِ المثقوبة،
وُلِدَ الغُزاة في حضن ريحٍ تَسير علي أربع أرجلٍ،
بلُطفٍ من سَمائهم الخاصّة
التي تُهيّئُ العالم لكي يبتلعهُ
حُوتُ لُغتهم المقدّسة.
حَقاً، كما يقول الغزاة،
كأنّ هذه الأمَّ ـ السَّماءُ
لا تتغذَّي إلاّ بأَبنائِها.
هل علينا كذلك أن نصدّقَ، أيُها الغزاة،
أنّ ثمة صواريخ نبويّة ً تحمل الغزو،
أنّ الحضارة لا تولد إلاّ من نفاياتِ الذَّرَّة؟
رمادٌ قديمٌ جديدٌ تحت أقدامنا:هل تعرفينَ إلي أيّة هاويةٍ وصلتِ أيّتها الأقدامُ الضّالّة ؟
موتُنا الآن يقيمُ في عقاربِ السّاعة.وتَهمّ أحزانُنا أن تُنشِبَ أظفارَها في أجسادِ النجّوم.
يا لهذه البلاد التي نَنْتمي إليها:اسمُها الصمَّت وليس فيها غيرُ الآلام.وهاهي مليئة ٌ بالقبور ـ جامدةً ومتحرّكة.

يا لهذه البلاد التي ننتمي إليها:أرضٌ تَسبح في الحرائق
والبشر كمثل حَطبٍ أَخضر.
ما أَبْهاكَ أيّها الحَجرُ السّومريّ،
لا يزال قلبكَ ينبض بجلجامش،
وها هو يستعدّ لكي يترَجَّلَ من جديدٍ،
بَحثاً عن الحياة،
غير أنّ دليله، هذه المرّةَ، غبارٌ ذَرّيّ.
أغْلقنا النّوافذ َ
بعد أن مسحنا زُجاجَها بجرائدَ تؤرّخ للِغزو،
وألقينا علي القبور آخرَ ورودنا.إلي أين نمضي؟
الطّريقُ نفسه لم يعد يصدّق خطواتِنا.

II
وطنٌ يُوشكُ أن يَنْسيَ اسْمَهُ.ولماذا،
عَلّمتْني وردة ٌ جورّية ٌ كيف أنَامْ
بين أَحضْانِ الشّآمْ ؟
أَكَلَ القاتلُ خُبزَ الأغنيْة،
لاَ تَسَلْ، يا أيّها الشّاعِرُ، لن يُوقظَ هذي الأرض غيرُ المعَصِية ْ.


31
آذار 2003

                                                                                            
بطاقة حب لبغداد
شعر حسن توفيق

بغدادُ خانتني وأخفتْ وجههَا عني
لم يبقَ لي أحدٌ سواها.. ما دهاها؟ كيف تُفلتُ كفّها مني؟
بغدادُ خلَّتني مع السفهاءِ والأُجَراءِ مغتربينَ عن حزني
بغدادُ خانتني
***
بغداد لم تخُنِ العهود
فأنا الذي حينَ ارتجفتُ عرفتُ أني لن أعود
ما بيننا حشدٌ من الغرباء واللؤماء والزمن المضلِّل بالوعود
والجو ينذر بالرخاوةِ والتباهي بالقيود
***
كَمْ قلتِ لي: الله أكبر
كم قلتُ: إني أفتديك إذا طغى وحشٌ وزمجر
ما أكذبَ الكلماتِ إن لم تُشهرِ الحبَّ المنوّر
في وجه ليلٍ قد تسمَّر
|||
يبدو الخراب ملوِّحاً للنهرِ بالشمس الجديدة وانتصاراتِ التتار
لم يَقْبل النهرُ الحوار
فتدافعَ المتهافتونَ المقبلونَ على نفائسه لكي يجنوا الثمار
وتداخلتْ صورُ الفظائع والمطامع بعد تغيير الملامح والشعار
|||
بغداد يا حبي
عيناكِ ينطق فيهما نهرٌ من الخصبِ
لكننا عشنا مع الأهوالِ والحربِ
لم ننسَ وجهتنا وصورتنا فإن الشمسَ لم تشرقْ من الغربِ
***
عشاقُكِ المتلهفونَ يطاردون اليأسَ حتى يخنقوه ويحرقوه
حتى تظلَّ لهم وجوه
عربيةُ القسماتِ.. لا أحدٌ يقامرُ أو يخادعُ أو يساومُ أو يتوه
وليسقط المتخبطونَ بمخلب الظلمِ الذي كم هادنوه وباركوه
***
بغداد تسكنني وأسكنها وأنساها ببلواها فتحضنني
وتظلُّ تلهو حولها أفعى معربدةٌ تطوقها.. لترعبني
بغداد باقيةٌ.. وباقٍ جمرها بسمائنا العطشى إلى وطنِ
يوماً ستصحو حيث تمسحُ دمعتي الحرَّى وتضحكُ وَهْيَ توقظني
***
إيزيسُ.. أَمْ عشتارُ.. والفينيقُ.. أَمْ بغداد
يا صرخةَ الميلاد
فيضي - برغم شجوننا - بالخصبِ والأعياد
إنَّا - برغم ظلالِ أشجارٍ هَوَتْ وتناثرت - نبقَى على ميعاد


الكتاب كاملا على هذا الرابط




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق