الأحد، 23 أكتوبر 2011

مئوية بابلو نيرودا تعالوا لتروا الدم في الشوارع

مئوية بابلو نيرودا تعالوا لتروا الدم في الشوارع
حلمي سالم الحوار المتمدن - العدد: 954 - 2004 / 9 / 12
المحور: الادب والفن



قبل مئة عام ولد رجل "له وجه مدهش، كغجري مصقول، ومن يدري لعله ابن اميرة اراوكانية، ومصارع ثيران من رندة"

هذه كلمات غارثيا لوركا في وصف بابلو نيرودا، شاعر تشيلي العظيم، الذي رحل عن عالمنا عام 1973 بعد الانقلاب العسكري على حكومة الليندي الاشتراكية، والذي حصل على جائزة نوبل للادب قبل رحيله بعامين (1971) ورندة مدينة في جنوب اسبانيا، ذات طابع اندلسي خالص، مازالت تحتفظ به، واليها ينسب عدد من شعراء الاندلس العرب، وتشتهر بالموسيقى والرقص والفرسان والغجر

ترك نيرودا نخبة باهرة من الدواوين الشعرية منها: اغاني الشفق، طفولة وشعر، الرامي بالمقلاع (هل كان يتنبأ بثورة اطفال الحجارة في فلسطين؟) القمر في التيه، اغاني العناصر، عشرون قصيدة حب واغنية يائسة، الاقامة في الارض، اسبانيا في القلب، محاولة الرجل غير المحدود، النشيد العام، سيف اللهب، وقدم كتباً نثرية، منها: صفحات من اناتول فرانس، المواطن وامله، خواتم، لكن اهمها جميعا كانت سيرته الذاتية"اشهد انني عشت".

يرى لويس عوض ان بابلو نيرودا هو اعظم شاعر في الاسبانية منذ لوركا، وهو من جيله تقريباً، فلوركا ولد عام 1898 (العام الذي ولد فيه طه حسين) ونيرودا ولد بعده بست سنوات عان 1904 (العام الذي مات فيه محمود سامي البارودي) وكلاهما ينتمي الى اليسار الناطق بالاسبانية مع فرق واحد، هو ان لوركا قتله الفاشست الاسبان رمياً بالرصاص في الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936، اي وهو دون الاربعين، بينما نيرودا عمّر حتى ناهزالسبعين ويبدو ايضا انه مات مقتولا، فقد وجدوه في داره ميتاً، بعد اسابيع قليلة من الانقلاب العسكري الذي اطاح بنظام الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، ووجدوا اثاث بيته مهشماً، مما يوحي بأنه كان القنيصة الكبيرة الثانية بعد مصرع الرئيس الليندي، لانه كان البديل الطبيعي لرئاسة جمهورية تشيلي بعد الليندي، ولأنه كان الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي التشيلي.

بدأ نيرودا عمله الديبلوماسي مبكراً، قنصلا لبلاده في اقطار آسيوية عدة، ثم زار اسبانيا التي هي في القلب، وكانت نقطة التحول في حياته هي الحرب الاهلية الاسبانية وانقضاض الفاشيين على الجمهوريين والشيوعيين وإعدام صديقه لوركا، منذ ذلك التاريخ انحاز نيرودا الى الجمهوريين، وفقد عمله في السلك القنصلي مؤقتا، وانتقل الى باريس حث اسس جماعة "الامريكان الاسبان" التي بسطت رعايتها على جيلين من كتاب امريكا اللاتينية وهذه هي الفترة التي كتب فيها ديوانية "الاقامة في الارض" و"اسبانيا في القلب": "تسألون: لماذا في شعره/ لا يتحدث عن الاحلام عن الاوراق.

عن البراكين العظيمة في وطنه الاصيل؟

تعالوا لتروا الدم في الشوارع

تعالوا لتروا الدم في الشوارع".

في نفس عام صدور "اسبانيا في القلب" ترجم الى الفرنسية، وكتب مقدمة الترجمة الشاعر الفرنسي الكبير لويس اراغون "لقد اخترنا هذا الديوان، ذا الصفحات القليلة، كمقدمة عملاقة لأدب العالم كله. ولست اشك في ان الشبان الذين سيقرؤون ترجمته الفرنسية سيحسون بالرعشة التي احس بها جيلي وهو يقرأ الشاعر ابو للينير (1880- 1918) وكم اتمنى ان تبلغ هذه الترجمة قلوب الذين قدوا من صخر. ان فيه هذه القوة التي تسقط الاسوار بالغناء".

وفي عام 1938، كانت برشلونة تمثل الصخرة الصامدة في مواجهة الفاشية، وتقاوم بعنف على نحو ما كانت مدريد تقاوم قبلها، فقام الشاعر المالقي مانويل التوجير (1905- 1959) وكان احد المقاومين بها، بإعادة طبع الديوان، مرة اخرى، وهي طبعة فريدة في تاريخ الطباعة، يحكي لنا التوجير القصة بقوله كان الجنود في الجبهة هم الذين صنعوا الورق الذي طبع عليه الديوان، لم يستخدموا في صنعه المواد الاولية من القطن والخرق القديمة التي امدتهم بها القيادة فحسب، وانما اضافوا "الى العجينة" المستخرجة منها، ملابس الجنود الذين سقطوا دفاعا عن المدينة، ومن فضلات الحرب، ومما غنموه من الاعداء، راياتهم، قمصان الجنود المساجين، صنعوا من كل ذلك الاوراق التي طبع عليه الديوان، وتولى الجنود جمع حروفه، وكانوا هم الذين تولوا طباعته ايضا (د.طاهر مكي: نيرودا شاعر الحب والنضال).

"النشيد العام" يتحفك- كما يقول لويس عوض- باشياء غير مألوفه في شعر الشعراء الذين نقرأ لهم من أي مدرسة من مدارس الادب، فلا هو بالشعر الكلاسيكي الاتباعي، ولا هو بالشعر الرومانسي الاتباعي، ولا هو بالشعر الرمزي، ولا هو ينتمي الى تيار معروف من تيارات الادب وصاحبه "نيرودا" يسميه الشعر "الواقعي" وربما كان اقرب نوع من انواع الشعر نعرفه له في تاريخ الادب هو ما نسميه عادة بالشعر "التعليمي"، وهو مدرسة ذات تقاليد قديمة في تاريخ الادب.

على ان اهم ما نتعلمه من شعر نيرودا هو قوله انه اكتشف ان ليست هناك لغة للشعر ولغة للعلم ولغة للحياة اليومية، فكل الاسماء والمسميات تصلح خاصة للشعر، الحديد والنحاس والفحم والكوبالت والبازلت تصلح خامة للشعر تماما مثل الزهرة والجدول والايك والفنن والطائر المغرد. وليست هناك حواجز بين الشعر والحياة اليومية.

"في سنة 1945 وقفت اخطب وألقي بعض قصائدي في اجتماعي سياسي، كان عددنا يقترب من مئتي شخص، واذا بي اسمع ضجة آليات تقترب، وعلى بعد اربعة امتار او خمسة مني وقفت دبابة عسكرية، ثم اطل منها رشاش توصيبه نحو رأسي، وظهر قرب الرشاش ضابط متأنق، لكنه جاد وصارم الى ابعد الحدود واقتصر هذا الضابط على توجيه نظرات عينيه الى بينما كنت اتكلم. وكان ذلك هو كل شيء (هكذا تكلم نيرودا في مذكراته الفاتنة "اشهد اني قد عشت" (ترجمة محمود صبح) وهي المكرات التي خصها الناقد رجاء النقاش بسلسلة متتالية من المقالات في جريدة "الاهرام " قبل سنوات قليلة.

وقد انتهى النقاش في مقالاته الى ان هذه المذكرات اثبتت له حقيقتين كبيرتين: الاولى هي ان الشعر ضروري للنفوس السليمة مثل ضرورة الخبز. والثانية هي ان الشعر "قوة" قد تفوق احيانا قوة الدبابات والمسدسات والبنادق. "آه مما اعرف، ومما تعرفت عليه"

ومن بين كل الاشياء

فإن الخشب افضل اصدقائي".

طريق الشعب

البــــــــارودي ..«مول» السيف والقلم

البــــــــارودي ..«مول» السيف والقلم
حلمي سالم

«سكن الفؤاد وجفت الآماق،

ومضت علي أعقابها الأشواق،

لا الدار دار بعدما رحل الصبا،

عني ولا تلك الرفاق رفاق».

هكذا حدث محمود سامي البارودي نفسه قبل أكثر من مائة عام، ولم يكن يدري أن صوره المجازية الشعرية ستتحول إلي واقعة مفزعة ثقيلة بعد أن تدور الأيام دورتها القاسية ويمر العابرون أمام بيته هذه الأيام فيرددون كلماته «لا الدار دار بعدما رحل الصبا عني ولا تلك الرفاق رفاق» فقد حملت لنا الأنباء مؤخرا أن ثريا من الأثرياء الجدد «سائق ميكروباص» اشتري قصر محمود سامي البارودي، وهدمه ليقيم مكانه «مولا» تجاريا ضخما.

ومحمود سامي البارودي «1838-1904» هو أحد قادة الثورة العرابية «1881» ورفيق أحمد عرابي في الوطنية، كان وزيرا للحربية ثم رئيسا للوزراء بعد ثورة عرابي وبعد فشل الثورة نفاه الإنجليز والخديو إلي جزيرة سرنديب مع القادة العرابيين ليقضي ثمانية عشر عاما يعود بعدها إلي مصر بإفراج الخديوي عباس حلمي وقد ذهب بصره وذهبت صحته ليموت بعد أربع سنوات من عودته من المنفي عام 1904.

«رب السيف والقلم» هذا هو اللقب الذي أطلقته عليه الحياة المصرية آنذاك نظرا لأنه كان قائدا عسكريا وشاعرا ومثلما لم يكن قائدا عسكريا عاديا «إذ حارب في تكريت وفي روسيا وغيرهما» لم يكن -كذلك- شاعرا عاديا، بل هو الشاعر الذي يصنعه التاريخ النقدي في طليعة مرحلة الإحياء والبعث التي استعادت للشعر العربي ديباجته المتينة وحضوره المكين بعد مرحلة الضعف والانحطاط التي عاشها في العصور الوسطي السابقة.

البكاء علي الأطلال

قصر البارودي تحفة معمارية وجمالية نادرة من تحف عمارة القرن التاسع عشر يقع أمام مبني محافظة الجيزة علي رأس الشارع الذي أخذ اسم «البارودي» بمنطقة الهرم مساحة القصر وحديقته تبلغ أربعة آلاف متر وهو مسجل في سجلات المجلس الأعلي للآثار تحت بند «قصور ذات قيمة تاريخية» اشتري سائق الميكروباص القصر من حفيدة البارودي بعشرين مليون جنيه، ودفع رشوة قدرها ربع مليون جنيه لثلاثة مهندسين برئاسة حي العمرانية لكي يصرحوا للمشتري بهدم القصر وفي ثمان وأربعين ساعة تحول القصر إلي أطلال تنعي ناظر الحربية لم يتحرك أحد من المسئولين في وزارة الثقافة أو المجلس الأعلي للآثار أو محافظة الجيزة أو رئاسة الوزراء.

فإذا تأملنا الواقعة قليلا وجدناها غاصة بحفنة من الجرائم: حفيدة البارودي التي باعت، المشتري الذي جمع العشرين مليون جنيه من إذلال الركاب وحشرهم كالسردين في صناديق متحركة قاتلة «أو ربما من سبيل آخر أسرع إثراء»، المهندسون الرسميون المرتشون، المحافظة التي لم تر ولم تسمع ولم تتكلم، أهل المنطقة الذين شاهدوا البلدوزرات تقوض ما بقي من تراث المحارب الشاعر، ولم يتحرك واحد منهم من أجل خاطر أحد قادة الثورة العرابية وأحد رواد النهضة الشعرية في العصر الحديث، ثم هيئة الآثار التي تتفرج علي المسرحية كمشاهد محترف.

وهدم قصر البارودي بالبلدوزرات ليس أول وقائع تدمير الآثار التاريخية أو تركها تعشش فيها الأشباح والعنكبوت، فهي عادة ثابتة: قصر البارون، التحفة المعمارية الرائعة بشارع صلاح سالم، الذي بناه لنفسه البارون إمبان، باني حي مصر الجديدة، درة مهجورة يمرح فيها الظلام والخراب، قصر شمبليون، بشارع شمبليون وسط العاصمة، بناه الفرنسي شمبليون الذي فك رموز اللغة الهيروغليفية ومن ثم كشف الحضارة المصرية القديمة للعالم، قصر الأمير يوسف كمال بالمطرية.

والقصر حافل بمقتنيات فنية نادرة تمثل ربع الآثار الموجودة بالمتحف الإسلامي، كما يقول سمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري، القصر مهجور والمقتنيات تسرح فيها الصراصير والفئران.

قصر الأمير سعيد حليم الذي تحول إلي مخزن لوزارة التربية والتعليم، قصر مبني مجلس قيادة ثورة يوليو «تموز» الذي تحول إلي ركام من الكراكيب علي شاطئ النيل.

هذه القصور متروكة مهجورة لأن هيئات عديدة -رسمية وأهلية- تتنازع علي ملكيتها أو الإشراف عليها ونتيجة النزاع هي أن يظل الأثر علي ما هو عليه تنعق فيه الغربان.

أما هدم قصور أعلام الأدب والفن والثقافة وتحويلها إلي فنادق أو «مولات» فقد حدث «قبل قصر البارودي» مرات عديدة أشهرها: قصر يوسف وهبي بالجيزة الذي هدم وأقيم مكانه فندق «شيراتون» وفيللا أم كلثوم بالزمالك التي هدمت وقام مكانها «فندق أم كلثوم».

ومن الطرائف المرة في فيللا أم كلثوم أن رجل الأعمال الذي اشتري الفيللا وأقام الفندق أراد أن يظهر أنه يتيمن باسم أم كلثوم وأنه يحب الفن الأصيل فسمي الأجنحة والقاعات بأسماء أغاني أم كلثوم: سويت «إنت عمري» وقاعة «الحب كده» ومسبح «فات الميعاد» ومطعم «فكروني» وكافتيريا «سلوا قلبي» وهكذا دمر الأثرياء الجدد أم كلثوم أربع مرات: مرة حينما اشتروا منزلها ومرة حين هدموه ومرة حين بنوا فوقه فندقا ومرة حينما استثمروا صورتها وأغانيها في جذب الزبائن والسياح والنزلاء.

وربما يفعل سائق الميكروباص الذي هدم قصر البارودي شيئا من ذلك في المول الذي سيبنيه، فتري: محل شنط «الثورة العرابية» ومحل أحذية «سرنديب» ومحل ملاءات «الإحياء والبعث» ومحل سراويل «غربة وحنين» (عنوان إحدي قصائد البارودي).

منذ ثلاث سنوات احتفل المجلس الأعلي للثقافة بمصر بمرور مائة عام علي رحيل البارودي احتفالا ثقافيا كبيرا ولو أن واحدا من المحتفلين نبه إلي ضرورة صون بيت البارودي، فربما كنا تفادينا هذه الكارثة الثقافية والأخلاقية كأن يقول: صونوا البيت الذي قصده البارودي حينما قال من منفاه: «وكيف أنسي ديارا قد تركت بها،

أهلا كراما لهم ودي وإشفاقي،

إذ تذكرت أياما بها سلفت،

تحدرت بغروب الدمع آماقي».

من هو البارودي؟

هذه إذن واقعة تنطوي علي ثلاثة معان مؤسفة:

الأول هو أن السلطات الثقافية أو الوزاية المعنية بالحفاظ علي الآثار التاريخية غائبة عن ا لوعي والواجب ثم إنها -في حالات كثير- تشارك في الكارثة بتسهيل الهدم والبناء نظير «رشوة» معلومة.

الثاني هو أن الأثرياء الجدد، الذين طفوا علي سطح الحياة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة بطريقة طفيلية مريبة لا يعنيهم التاريخ أو الوجدان القومي أو رموز الحضارة بل إنهم يحتقرون ذلك كله ويسخرون منه.

الثالث هو أن هستيريا المول والفندق تكتسح الحياة المصرية بديلا عن الثقافة والفكر والفنون علي عكس الرأسماليين السابقين الذين كانوا يبنون المصانع ويبنون ستوديو مصر ويرسلون البعثات إلي الخارج علي نفقتهم الخاصة ويبنون كلية الفنون الجميلة إن الفارق بين الحالتين هو الفارق بين الرأسمالية الأصيلة ورأسمالية قطاع الطرق.

والسؤال الآن: لو علم البارودي بما سيفعله أحفاده المصريون في منزله هل كان سينشد من منفاه بيته الحزين التالي: «أحن إلي أهلي وأذكر حيرتي،

وأشتاق خلاني وأصبو لمألفي»؟.

في التحقيقات الجارية حول هذه الجريمة سأل المحقق مسئولي محافظة الجيزة التي تقع أمام القصر مباشرة: لماذا لم تتدخلوا لإنقاذ قصر البارودي؟ فأجاب المسئولون: نحن لا نعرف من هو الباروي أصلا.

لا ريب أن طيف البارودي سيمر كل مساء علي قصره الذي سيصبح مولا تجاريا ضخما ويتمتم في شجن حزين.

لا الدار دار بعدما رحل الصبا عني،

ولا تلك الرفاق رفاق»

وإذا حانت منه التفاتة إلي عنوان المول سيجد عنوانه: «مول السيف والقلم».


الأهالي المصريه

الأحد، 16 أكتوبر 2011

نحو فكر عربي جديد












قتل الثورات بالحبر








النموذج اللبناني كشف التخلف السياسي العربي

واصفا نصر الله ورفاقه بيد الله التي يبطش بها
حلمي سالم:

النموذج اللبناني كشف التخلف السياسي العربي

الجزيرة نت -- (الخميس، 10 آب «أغسطس» 2006)
محمود جمعة – القاهرة

أعرب الشاعر المصري حلمي سالم عن سخريته من الأنظمة العربية التي لم تكتف بمشاهدة ما يحدث من جرائم بشعة فوق الأرض اللبنانية, وإنما كشفت –حسب قوله- بكل وضوح عن وجهها الحقيقي الداعم للإرهاب الأميركي والإسرائيلي.

وقال سالم في تصريحات خاصة للجزيرة نت عقب ندوته الشعرية التي أقامها بمقر حزب التجمع الوطني الديمقراطي تضامنا مع المقاومة العربية علي الأرض اللبنانية والفلسطينية، إن ما يجري على الأرض اللبنانية الآن من أحداث دامية ومجازر وخروقات وانتهاكات لكل الأعراف والمواثيق الدولية، يؤكد أن الأنظمة العربية هي أعدى أعداء القضية الفلسطينية والمقاومة الباسلة في لبنان.

وقال سالم "إنني أرفع قبعتي لإسرائيل والأميركان لوضوحهما وعملهما للقضاء علي الأمة العربية"، مؤكدآ أنهما دولتان ضليعتان في الإرهاب والإجرام من أجل تحقيق مصالحهما مهما كانت النتائج، أما الكارثة كلها فتكمن في عمالة الأنظمة العربية وموالاتها المفضوحة لإرهاب الدولتين ودعمها للقضاء على آخر معاقل المقاومة والكرامة العربية.

وكشف سالم عن محاربة إسرائيل لكل القوى الوطنية في لبنان عام 1982 في حين أنها هذه المرة تحارب حزب الله وحدة الذي وصف من قبل الصهاينة والحكام العرب وأتباعهم، بأنه لا يمثل الأنظمة وبأنه مغامر وجهاده باطل شرعا، موضحا أن الحقيقة التي لا مراء فيها أن حزب الله يدافع عن كل لبنان بل ويحمي الأمة من مخطط إبادتها.
 

توليفة لبنانية عبقرية

وكشف سالم أن المستقبل القريب سيسفر عن سقوط كل الأنظمة العربية المستبدة، التي كشف حزب الله ضعفها وهشاشتها, ولم يخفِ سالم أن متابعته للأحداث على الأرض اللبنانية أسفرت عن العديد من الحقائق الكارثية، ذلك أن النموذج اللبناني في ديمقراطيته واحتوائه كافة الأطياف السياسية أبهر الدنيا بنضجه وليبراليته وجمعه بين قيم الشرق وحرية الغرب، في توليفة عبقرية استوعبت كافة الملل والطوائف.

وأضاف أن العرب ساهموا في تدمير هذا النموذج بدعمهم "فرق الطوائف" واختراقهم النسيج اللبناني مما أسفر عن الحرب الأهلية المدمرة، حيث كانت كل دولة عربية تؤيد فصيلآ لبنانيا وتقوده نحو تدمير الآخرين، مؤكدا أن ذلك النموذج المبهر كان في الوقت ذاته نموذج إدانة للتخلف السياسي العربي، وأن الأنظمة العربية اتخذت من لبنان ملعبا لتصفية حساباتها.

ووصف سالم السيد حسن نصر الله ورفاقه بأنهم يد الله التي يبطش بها ويدمر بها أسطورة إسرائيل، فيما كشف أن استدعاءه لأبيات أمل دنقل "المجد للشيطان معبود الرياح.... من قال لا في وجه من قالوا نعم".

يذكر أن حلمي سالم أبرز شعراء جيل السبعينيات إلى جانب حسن طلب وعبد المنعم رمضان ورفعت سلام ومحمد سليمان وجمال القصاص، ومن أبرز دواوينه "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض" و"الأبيض المتوسط" و"سيرة بيروت" و"تحيات الحجر الكريم" عن الانتفاضة و"مدائح جلطة المخ".

وقد خص الشاعر "الجزيرة نت" بمقطع من قصيدته الأخيرة "حمامة على الجنوب" التي لم تنشر بعدُ ويقول فيها:

هذي قانا... خاتم عرس الأحياء
يغص الدهر بشهقتها
فيموت بتلويحة كفيها... شهقانا
هذي قانا... تدني بيديها نحو الخلق
تربت فوق غريق
وتسبل غرقانا
هذي قانا... تحت ركام مآذنها
نلقي شيخا
تحت ركام كنائسها
قس يلقانا
هذي قانا... وعدان بكرمتها..
وعد أبهجنا في الشرفات
ووعد في الواحدة تماما أشقانا
هذي قانا ...
تنهض زينب من تحت الردم تفتش
هذي كف أخي... بأصابعها المنحولة
هذا رأس أبي بالندبة في جبهته السمراء
وهاتان القدمان لأختي بالخلخال على كاحلها الأيسر
والوشم على كاحلها الأيمن
تضرب زينب في الطرقات
توزع من سلتها للأحباب هدايا
تعطي "عبده" كماً من فستان الجارة
ليعلقه على أبواب النوم
وتعطي "شمس الدين" جديلة شعر زميلتها في المدرسة
ليغسلها في "الليطاني"
هذي قانا... كانت مفتاح تفرقنا
صارت مفتاح لقانا
هذي قانا.. سهم محبوك في رقبة مخزيين
ودرع من سهم الذل وقانا.


محمد علي شمس الدين نجوم في المجرة

محمد علي شمس الدين نجوم في المجرة
حلمي سالم(مصر)
صدرت للشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين مختارات شعرية تحت عنوان "نجوم في مجرة" ضمن "سلسلة آفاق عربية" في القاهرة.
تتضمن المختارات عيّنات من مختلف أعمال شمس الدين، وتبرز في هذه البانوراما، التميزات التي حققها الشاعر، ومراحل انضاج تجربته الشعرية منذ السبعينات حتى اليوم.
الشاعر المصري حلمي سالم وضع المقدمة التي ننشرها كاملة.
مجرة الشعر
"زمن صليب/ يمشي/ ويحمله الجنوب. هذا شاعر من الجنوب، ارتفع بجنوبه (اللبناني) الى مستوى رمز العذاب، من عذاب الجنوب في لبنان، الى عذاب البلاد العربية، الى عذاب الإنسانية بأسرها.
عندما صدر الديوان الأول للشاعر الكبير محمد علي شمس الدين عام 1975، كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد بدأت تشعل نيرانها الحامية، وكانت الآلة العسكرية الصهيونية بدأت تولّي وجهها شطر جنوب لبنان، الذي كانت المقاومة الفلسطينية قد اتخذته ملاذاً بعد خروجها من الأردن عقب حرب أيلول الأسود 1970.
حينئذ نشأت ظاهرة شعر الجنوب اللبناني الوطني المقاوم، المقاوم للفصائل اليمينية في انقسام الحرب الأهلية اللبنانية، والمقاومة للآلة العسكرية الصهيونية التي راحت تترصد الفصائل الفلسطينية وحلفاءها من القوى الوطنية اللبنانية، وكانت ظاهرة شعر الجنوب اللبناني الوطني المقاوم متوازية أو متواكبة مع ظاهرة شعر المقاومة الفلسطينية في ذلك الحين، ولقد صبغت هذه النشأة الوطنية المقاومة شعر الجنوب اللبناني بنزعة خصوصية مميزة.
لكن البعض من شعراء الجنوب اللبناني المقاوم ـ وعلى رأسهم شاعرنا محمد علي شمس الدين ـ حلّق بشعره من جغرافيا الجنوب اللبناني الى جغرافيا العالم كله، ومن مأساة الإنسان الجنوبي الفرد الى مأساة الإنسان في كل مكان، فارتفع الجنوب اللبناني عن ذاته، وارتفع شعراؤه عن ذواتهم، وارتفعت القضية كلها الى سماء كونية شاملة (وهكذا فعل، أيضاً، بعض شعراء المقاومة الفلسطينية).
كان هذا الارتفاع هو الملمح الكبير الأول في تجربة محمد علي شمس الدين: الانطلاق من الخاص الى العام، الانطلاق من الجزئي الى الكلي، الانطلاق من الذات الى الموضوع، الانطلاق من الأنا الى الآخر.
ونلتقي بالملمح الكبير الثاني في تجربة شاعرنا، وهو التواصل الخصب مع التراث العربي، القديم والحديث: التراث الديني والتراث الشعري والتراث الأسطوري. كأن هناك حركة بندولية جدلية مع التراث: ذهاب الى التراث وعودة منه، أو مجيء التراث الى لحظتنا الراهنة، وفي الحالتين يغدو غير ما كان. ثمة "معلقة ثامنة" تتواصل أو تتكامل أو تتعارض مع المعلقات السبع القديمة، وثمة اللعب المعاصر مع بيت المتنبي الشهير "الليل والخيل والبيداء تعرفني"، وسنجد الإكليل المسيحي، وسنجد كربلاء (هل هناك تشابه بين كربلاء والجنوب اللبناني؟). وسنجد إنتاجاً معاصراً لقصة نوح والسفينة، فكأن الغرق خلاص وكأن النجاة مأزق.
وسنقذف في قلب مآسي ديك الجن وقيس وليلى وسالومي ويوحنا المعمدان وامرئ القيس، بمعالجات حداثية معاصرة.
والتراث، هنا، ليس التراث العربي أو الشرقي وحده، بل هو التراث الإنساني كله: (ألم نقل إن النصوص تنتقل من المحلي الى الكوني؟)، حيث الشاعر يستدعي الأشباه والنظائر له في الكون كله: لنجد لوركا بعرس الدم ورامبو بإشراقاته متجاورين مع جملة أحمد شوقي "ريم على القاع بين البان والعلم"، ونجد جوحان متجادلاً مع عكاز امرئ القيس وتأبط شراً، ونجد غرناطة متجاوبة مع حمص، ونجد نوح متواصلاً مع الرصاصة المعاصرة. هذه، إذن، إعادة أسطرة معاصرة للأساطير السابقة: أساطير الحب، وأساطير الشهادة، وأساطير العذاب.
ضمن إطار التواصل مع التراث القديم (والحديث) سنلاقي الملمح الكبير الثالث، في تجربة شاعرنا، وهو النزعة الصوفية الواضحة، التي أعلنها الشاعر بجلاء حين قال "لا أحب سوى العاشقين الحيارى وأحوالهم في الجنون العظيم". سنقابل الحلاج، ونقابل حافظ الشيرازي في "وقفة" كاملة، حيث الحياة "كالحرب تبدل مجروحاً بمجروح". وحيث لا خلاص إلا بالذات "ليكن دمي مأوى"، وحيث تمتزج في الصوفية الثورة والشهوة والكتابة، وحينئذ تصبح المعرفة قرينة الجرح، لأن "النوم على حد الرؤيا/كالنوم على حد السكين".
في هذه "الأحوال" يتجلى بهاء الحرف، أليست "الحروف أمة من الأمم" كما قال بن عربي؟. ولذا فإن "ميم" يحرث الآبار، وإن "الياء" تحمل مثواها". وهنا يصبح الشعر (الذي هو ابن الحروف أو أبوها) تراجيديا كاملة إذ هو "سطرٌ في الماء، وسطر في الريح، وسطر في الرمل، وسطر في ألواح الطين".
إن هذه الملامح إنما تتجسد في سياق من "الغنائية" الثرية العذبة (التي هي الملمح الكبير الرابع من ملامح تجربة شمس الدين). وهي ثرية لأنها لا تقتصر على الأنغام السطحية الهشة أو الصوت الأحادي الوحيد الفقير، بل تشتمل على الطابع الدرامي الغني حيث تتعدد الأصوات ويبرز الحوار، كا تتسع لأحزان الذات (وانقساماتها) وأحزان المجموع. الموسيقى حاضر أساسي في النصوص: كمادة وموضوع ورمز. كأن شاعرنا يستعيد جملة أبي حيان التوحيدي" من سمع الغناء على حقيقته مات" هو يبدأ من "سكسفون الوحدة" لينتهي الى سبعة أبواب للموسيقى، تبدأ بالفتوح وتنتهي بالجنة. وهو يستعيد زرياب حيث الحنين الى زمان الوصل بالأندلس، ويستعيد معبد الى جوار محمد عبد الوهاب، ويستعيد الأغاني للأصفهاني الى جوار شمس المساكين. أليس الشعر يوحد بين الأسماء"؟ ثم إن هذه الغنائية يمكن أن تغدو غنائية رمزية، ويمكن أن تصبح غنائية تجريبية، حيث "الحرية: مبتدأ لم يبدأ/والوحدة: قائمة في الموت".
بعد هذه الملامح الكبيرة الأربعة التي تسم تجربة محمد علي شمس الدين، أود أن أشير الى بعض "التيمات" البارزة في هذا الشعر:
الطير بطل جوهري من أبطال هذه النصوص. والطير أداة وغاية ورمز. حيث يصبح "طوق الحمامة" تجربة وذاتاً وموضوعاً، إذ يلتبس الطير بالشعر، فهل يصطاد الصياد الطائر، أم أ، الطائر يصطاد الصياد؟ كأن جدل الحمامة والقفص هو جدل الشعر والدنيا، إذ الشعر هو ـ كما قال قائل "هو اصطياد العالم في قفص الشكل". كأن الطير هو إلماح الى الشعر الذي لا يقتنص، أو الى الحرية حيث الرفرفة في الفضاء، أو الى الوطن الذي يقصقص الكثيرون جناحيه ليظل هامداً كسيحاً.
بطولة أبي العلاء المعري، الذي سنلقاه في أكثر من نص طوال مسيرة الشاعر، وكأن استحضار المعري يعني الانتماء الى ثلاث قيم بارزة: العمى الذي يعني ازدهار البصيرة، والشك الذي يعني هجرة اليقين المريح، والحكمة الوجودية الأليمة التي ترى الموت ختاماً لكل سعي بشري. إن اللعب مع أبي العلاء هو اللعب مع الرؤية الثاقبة، واللعب مع المصائر المعلقة، واللعب مع الحيرة الخالقة أو المميتة، واللعب مع القدر المقدّر على "الوضع البشري" الذي هو أشبه "بمنازل النرد". هذه الحيرة التي جعلت هاملت يتساءل "أكون أو لا أكون"، فيحيلها شاعرنا الى أزمته التي تقرن الكتابة بالحياة: "أكتب أم لا أكتب".
ج- استدعاء الشهداء القدامى وخلطهم بالشهداء المحدثين، فلا تعرف: هل الشهيد هو القديم أو الحادث؟ زينب ومريم تحضران فلا ندري اهما الرمزان القديمان أم هما الضحيتان المعاصرتان للغدر الإسرائيلي أو اليميني في جنوب لبنان؟ وديك الجن والحلاج ولوركا ورابعة، هل هم الشعراء المطعونون القدماء "شهداء الحب والعشق الإلهي والفاشية" أم أن هؤلاء هم الشاعر المعاصر الذي يتقمصهم جميعاً؟ هل هو شهيد الرسالة الأول يسوع المسيح، فيجتمع لدينا التفاعل مع الأديان جميعاً مع التناص ومع الشعر و"أساطير الأولين".
د- شاعرنا المتصوف، المغرم بتراثه العربي والكوني القديم والحديث، الغنائي الدرامي العذب، هو قبل كل ذلك وبعد كل ذلك، المواطن الثوري المنحاز للحرية والعدل وللبسطاء و"المحرومين"، حيث "لا يتنفس الفقراء في مدن النحاس".
السباحة في "مجرة" الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين تحتاج أياماً وأياماً، ولذا سأكتفي بهذا القدر الموجز من الإلماح الموجز لبعض ملامح تجربته الطويلة العريضة العميقة، (مدركاً أنني فاتني منها أكثر مما ذكرت). وأترك القارئ ينعم بسياحته الخاصة، ويستمتع باكتشافاته المباشرة، ولا ريب أنه سيكتشف الوفرة الوافرة من الكنوز المدهشة المبهجة، في هذه النصوص المدهشة المبهجة، على الرغم مما تنضح به من ألم وعذاب.
هذا شاعر كبير، انطلق من الجنوب (جغرافياً وتاريخياً) ليغدو لسان الدنيا بجهاتها الأربع، وبعصورها المختلفة، خالطاً بين المأساة والأمل، وبين الثورة والتصوف، وبين الوجود والعدم، في سبيكة أصيلة، معاصرة، جديدة

محمد السيد سعيد: الجيل والرجل

محمد السيد سعيد: الجيل والرجل

الأحد, 01 نوفمبر 2009

حلمي سالم

فتح رحيل المفكر والباحث محمد السيد سعيد (1950 – 2009)، ملف الحديث مجدداً عن جيل السبعينات المصري، في السياسة والثقافة. فبين الفينة والفينة كانت المناقشات والحوارات والاتهامات تطوف حول هذا الجيل متهمة إياه بشتى الاتهامات: فتارة هو «ضائع» أسرف في الحلم. وتارة هو جيل تمرد ثم انكسر ثم اندرج في السلطة. وتارة هو جيل وصل إلى طريق مسدود.
ومعلوم أن جيل السبعينات المصري هو الذي أشعل الهبة الطلابية الكبيرة في السنوات الثلاث الأولى من السبعينات، مطالباً بالحرب لتحرير الأرض المحتلة منذ 1967، وبالديموقراطية والعدالة الاجتماعية. وكان أقطاب من هذا الجيل دعوا إلى عقد مؤتمر كبير لأبناء الجيل، في محاولة للم الشمل بعد ثلاثة عقود على ثورته الأولى عام 1972. وعقد مؤتمر ضخم عام 2002، طرحت فيه أفكار عدة وأسئلة: هل يؤسس حزب سياسي؟ أم صحيفة؟ أم قناة تلفزيونية؟
رُفضت فكرة تأسيس حزب سياسي، لأن ليس هناك حزب سياسي يقوم على أساس طلابي، إلا أن يكون نقابة أو اتحاداً؟ فالحزب لا بد له من أساس سياسي أو اجتماعي أو أيديولوجي، غير موجود في حالة الطلاب السابقين الذين صاروا ينتمون إلى شتى التيارات السياسية.
لكن الفكرتين الأخريين لم ترفضا كما لم تدخلا حيز التنفيذ جزئياً، إلا أخيراً، حينما أسس محمد السيد سعيد صحيفة «البديل» عام 2007، لمدة عامين. وبعد انفضاض المؤتمر تبارت الصحف وبعض وسائل الإعلام الرسمية والرجعية والمعارضة في وصفه بأنه «أغنية البجعة الأخيرة»، وأنه زفرة ما قبل الموت النهائي لهذا الجيل. وأود أن أقدم، في مواجهة هذه الصورة الظالمة لجيل السبعينات في مصر، النقاط التالية:

1-
لم يكن منوطاً بجيل السبعينات أن يقوم بالثورة. لا هو وضع هذه المهمة لنفسه. فالحركة الطلابية كانت احتجاجية ساخنة، ساعدها الإطار العام المحيط، محلياً وعالمياً: وقوع هزيمة 1967 التي كشفت عورات النظام، وما تلاها من انتفاضة طلابية عام 1968 احتجاجاً على الأحكام الهزلية التي صدرت بحق المسؤولين عن الهزيمة. وكانت رياح ساخنة من ثورة اليسار الجديد في باريس عام 1968 تلقي بنسماتها اللافحة على وجوه الشباب المصري الصاعد.

2-
الرأي القائل بأن جيل السبعينات فشل في أن يصل أحد منه إلى السلطة، ينهض على أن النجاح هو الوصول. هذا المعيار خاطئ ومضلل وغريب، والعكس صحيح. ذلك أن هذا الجيل لم يسع إلى التمكن من «السلطة»، بل إلى التمكن من «المجتمع».

3-
لم ينتج هذا الجيل بطلاً «فرداً» أو زعيماً أوحد، لأن مفهوم البطولة تغير معه، فلم تعد البطولة فردية كما كانت، بل صارت «جماعية»، كما يقولون في المسرح.

4-
وعندي أن هذا الجيل قدم في كل مجال (لا في السلطة السياسية الحاكمة) مساهمات بارزة وأسماء مؤثرة:
في المجال المجتمعي المدني: سنجد أسماء أحمد عبدالله وأحمد بهاء الدين شعبان وحمدين صباحي وصلاح عدلي وكمال أبو عيطة وكمال خليل وعبدالمنعم أبو الفتوح وفريد زهران ومحمد هاشم ومجدي أحمد حسين. وفي المجال الفكري: تبرز جماعة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في «الأهرام»: عبد المنعم سعيد ومحمد السيد سعيد ونبيل عبد الفتاح وعبدالعليم محمد وطه عبدالعليم. وفي مجال الإخراج السينمائي: تبرز أسماء مجموعة المخرجين المميزين الذين انتقلوا بالسينما المصرية نقلات فارقة: يسري نصرالله. وفي المجال القانوني: هناك حافظ أبو سعدة ونجاد البرعي وحمدي الأسيوطي وأحمد سيف الإسلام وغيرهم من تلاميذ القامات القانونية البارزة، كأحمد نبيل الهلالي وزكي مراد وعادل عيد، والذين يمزجون بدقة بين النضال القانوني والنضال السياسي. وفي المجال الشعري: تبرز جماعتا «إضاءة 77» و «أصوات»، وشعراء مثل عبدالمنعم رمضان وحسن طلب وماجد يوسف ومحمد سليمان ومحمد صالح وفريد أبو سعدة ورفعت سلام، وغيرهم ممن انتقلوا بالتجربة الشعرية إلى آفاق جديدة. وكان يسبقهم بقليل صف حارٌّ من شعراء العامية الذين كان شعرهم مادة من مواد المقاومة: محمد سيف وعزت عامر وزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب الدين ومحمود الشاذلي. وفي مجال القصة: تبرز أسماء إبراهيم عبد المجيد ويوسف أبو ريد ومحمود الورداني ومحسن يونس ومحمد المخزنجي ومحمد المنسي قنديل ونعمات البحيري وسلوى بكر. وفي مجال الفن التشكيلي: تبرز أسماء عادل السيوي ومحمد عبلة وصلاح عناني ورضا عبدالسلام. وفي المجال النقدي والأكاديمي: تتألق أسماء صلاح السروي وفكري الجزار ووليد منير وأنور مغيث وسيد البحراوي وعلي مبروك وكمال مغيث.
وقد أردت بهذا السرد الطويل لبعض الأسماء (التي فاتني كثير منها) أن أوضح أربعة أمور رئيسة:
الأول: أن أحداً من أبناء جيل ثورة الطلاب السبعينية لم يتبوأ منصباً رسمياً، وهذه علامة صحة.
الثاني: أن هؤلاء جميعاً أخذوا مواقعهم في صلب العمود الفقري للمجتمع الحي والحياة المدنية المصرية. أما السلطة الحقة التي يمثلها هذا الجيل فهي سلطة المعرفة.
الثالث: في كل هذه المسيرة الطويلة تميز محمد السيد سعيد بين جيله (مع ثلة نادرة) بتعدد وجوه مساهمته الواسعة: في مجال الفكر السياسي حيث قدم دراسات رائدة حول «الشركات متعدد الجنسية» و «النظام العربي بعد حرب الخليج» و «الديموقراطية المحتجزة». ومجال العمل الصحافي حيث كان نائب رئيس مركز الدراسات في «الأهرام»، ورأس تحرير مجلتي «أحوال مصرية» و «رواق عربي»، ثم أسس صحيفة «البديل». ومجال حقوق الإنسان والعمل المدني حيث شارك في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وحركة «كفاية». وقد تضافرت هذه المجالات الثلاثة داخل شخصية هي نموذج نادر للمثقف الذي جمع بين الجذور الماركسية والغصون الليبرالية، وبين الأرضية الوطنية والأجنحة الكونية، وبين الأصول الطبقية والفروع الحضارية، فأجمعت على محبته واحترامه تيارات ألوان الطيف السياسي.
الرابع: أن معضلة هذا الجيل التراجيدية هي أنه بدأ صعوده إلى سطح الحياة المصرية (سياسياً وثقافياً واجتماعياً) في الوقت الذي راح المجتمع المصري كله يتحول إلى المنحنى الهابط، على أيدي أنور السادات.
وعلى رغم هذه المفارقة التراجيدية، فإن هذا الجيل (الذي يعد محمد السيد سعيد إحدى زهراته اليانعة) لم ينكسر، ولم يغن أغنية البجعة الأخيرة، بل صار مبثوثاً في لحم الحياة المصرية المدنية.
إنه، بحق، الجيل الصعب، الذي صعد في الزمن الصعب.


*
الحياة

دفاعاً عن قصيدة النثر

دفاعاً عن قصيدة النثر
حلمي سالم الحياة - 27/03/09//


شروط الشعر ليست قانوناً مقدساً نازلاً على الأرض، ثابتاً، صالحاً لكل مكان وزمان. بل هي تتغير بتغير العصور التاريخية والاجتماعية وبتغير الأماكن. ذلك أن شروط الشعر – كالشعر نفسه – ظاهرة حضارية ثقافية اجتماعية. وكل ظاهرة حضارية ثقافية اجتماعية تتغير بتغير الحضارة والثقافة والمجتمع والمرحلة.

شروط الشعر، إذاً، وضع بشر، وليست تنزيلاً علوياً أو «توقيفاً» سماوياً. وكل ما هو من صنع البشر، يغيره البشر. هذه الشروط، كذلك، لا يملكها تيار بعينه لوحده، ولا لحظة بعينها لوحدها، ولا فرد بعينه لوحده. إنها ملك حركة التاريخ والمجتمع والبشر. ومثلما وضعها الناس في فترات سابقة، يمكن ناساً آخرين في فترات لاحقة، أن يطوروها أو يعدّلوها أو يبدلوها بغيرها من الشروط. قصيدة النثر استعارة من ثقافة الغرب. وما العيبُ في أن تكون قصيدة النثر استعارة من ثقافة الغرب؟ كثير من أنواع الثقافة العربية الحديثة استعارة من ثقافة الغرب: كالمسرح، والسينما، والفن التشكيلي، والرواية. ولم يتهم أحد هذه الأنواع المستعارة بتهمة استلهام الغرب.

وتمت محاولات عدة – من نقاد ومؤرخين – لإثبات أن هذه الأنواع المستعارة من ثقافة الغرب، كانت لها جذور، أو بدايات بدائية أولية قديمة في الثقافة العربية القديمة. وثقافة الغرب ليست حكراً على الغرب وحده، كما كانت ثقافة الشرق ليست حكراً على الشرق وحده.

ليس وجود أصل للنوع الأدبي في ثقافتنا العربية القديمة هو– وحده – مانح «الشرعية» للنوع الأدبي الجديد. «الشرعية» الحقيقية تأتي من «الضرورة» أو «الحاجة» الاجتماعية التي تفرز نوعاً أدبياً أو فنياً يلبي حاجة ثقافية.

الحق أن قصيدة النثر العربية المعاصرة ليست مجرد اجتلاب من ثقافة الغرب، وليست نبتاً شيطانياً شاذاً في ثقافتنا العربية لا أصول له في ثقافتنا العربية القديمة.

إذ يمكن أن نلمس جذوراً (أو بذوراً) لهذه القصيدة في نصوص سجع الكهان وفي القرآن الكريم وفي نصوص المتصوفة المسلمين وفي بعض كتابات التوحيدي والجاحظ وإخوان الصفا وغيرهم. وحتى لو كان هؤلاء لا يسمّون نصوصهم «قصيدة نثر»، فإن من حقنا كمعاصرين، (يملكون تراثهم) أن نعيد تبويب هذا التراث وأن نصنّفه تصنيفات جديدة معاصرة.

لسنا ندعي أن نصوص النفري أو ابن عربي أو التوحيدي هي «قصيدة نثر» بالتصنيف المفهوم الراهن بالضبط، ولكننا نقصد أنها بذور جنينة في ثفافتنا البعيدة لهذا النوع المعاصر الذي نسميه «قصيدة النثر».

ولن نبالغ إذا قلنا إن قطعة من قطع النفري أو ابن عربي أو التوحيدي تحمل من «الشعر» أضعاف ما تحمله عشرات القصائد العمودية وعشرات القصائد التفعيلية لشعراء معاصرين أو محدثين.

المدهش أن حضور قصيدة النثر العربية المعاصرة في ثقافتنا العربية المعاصرة هو أقدم من حضور قصيدة التفعيلة (أو قصيدة الشعر الحر) بما يقارب أربعة عقود. فقد بدأت بوادر قصيدة النثر المعاصرة في أول القرن العشرين في العقد الأول والثاني والثالث – فيما بدأت بوادر قصيدة التفعيلة (أو قصيدة الشعر الحر) في أواخر الأربعينات.

لكن قصيدة النثر الحديثة – في ثقافتنا العربية – على رغم ذلك السبق الزمني الذي تحوزه، ظلت بعيدة مهمشة، إذ تعاون في إبعادها العموديون والتقليديون والسلفيون الفكريون وقامات الشعر الحر من نقاد وشعراء على السواء، كلٌّ لهدفٍ عنده. هل قصيدة النثر «شعر ناقص»؟

إذا كان كل شعر يفتقد عنصراً أساسياً من عناصره شعراً ناقصاً، فالشعر العمودي شعر ناقص إذا افتقد الشعور الصادق حتى وإن احتوى على الوزن والقافية. وهناك قصائد عمودية هي بهذا المعنى «شعر ناقص». وشعر التفعيلة «شعر ناقص» إذا افتقد اللغة الجميلة والمجاز الجديد الطازج حتى وإن احتوى على الوزن والقافية المتراوحة. وهناك قصائد من الشعر الحر هي – بهذا المعنى - «شعر ناقص» (ونستطيع أن نضرب مئات الأمثلة على «الشعر الناقص» العمودي وعلى «الشعر الناقص» التفعيلي). وما «الكمال» في الشعر؟ وهل «الكمال» في الشعر هو امتلاك الأدوات الأولية؟ هل مجرد امتلاك الأدوات الأولية، وحدها، يصنع شعراً كاملاً أم حقيقياً؟ وهل هناك كمال في الفن؟ الكمال لله وحده.

أليس جوهر كل فن أنه «نقصان» يسعى إلى «اكتمال» لا يكتمل؟

إن حضور الوزن في القصيدة لا يمنحها شعريتها (كما يعتقد بعض التقليديين) ولا يسلبها شعريتها (كما يرى بعض أهل قصيدة النثر) كما أن خلو القصيدة من الوزن لا يسلب منها الشعرية ولا يمنحها إياه، كما يرى أحد الطرفين.

وجود الوزن أو عدم وجوده ليس معياراً للشعرية في ذاته، وليس مثبتاً للجمال أو نافياً له. إن الوقوع في أحد الطرفين الحديين، هو تطرف مثالي عصابي معيب، نربأ بأهل الشعر (شعراء ونقاداً ومحبين) أن يقعوا فيه. وإذا التمسنا العذر – في الوقوع بهذا التطرف المثالي – للشباب (الجديد) بسبب إيقاعات العصر وحماسة الروح الشابة الساخنة، فإن الكبار المخضرمين ليس لهم عذر في ما يعلنونه من تطرف ونفي وعنف، لا سيما إذا كنا بصدد ظواهر جمالية متحولة متحركة، وليدة العلوم الإنسانية التي تختلف فيها الرؤى وتتباين الآراء.

هل قصيدة النثر خرساء؟ وما «الصوت»؟

الصوت ليس هو فقط وليد الحنجرة أو اللسان. فاللوحة التشكيلية «متكلمة» – ذات صوت. والعمارة «متكلمة» – ذات صوت. والشجرة «متكلمة» – ذات صوت.

وليس «الصوت» «نعمة» في كل حال. بل يمكن أن يكون «نقمة» إذا جعل القصيدة قعقعة هاذية وضجيجاً صاخباً مجوفاً. حينئذ يكون «الصوت» «سالباً» للشعرية، لا محققاً لها.

وكم من قصائد العمود وقصائد التفعيلة، الحافلة بالصوت، لم يجعل منها هذا الصوت سوى «جعجعة بلا طحن، وبلا شعر». أليس «الصمت» نفسه كلاماً، «صوتاً»؟

فرّق مؤيدو قصيدة النثر - في سجالهم مع، وردودهم على، خصومها – بين «الوزن» و «الإيقاع»، موضحين أن قصيدة النثر قد تخلو من «الوزن» – بالمفهوم الخليلي التقليدي – لكنها لا تخلو من «الإيقاع»، مبينين أن «الإيقاع» – أو الموسيقى الداخلية – أكثر أهمية وضرورية للشعر، مؤكدين أن كل عمل فني (بل كل نشاط بشري) لا يخلو من «إيقاع». وعلى ذلك، فإن الأساس في الشعر هو «الإيقاع» وليس «الوزن».

ونحن، بالطبع، نتفق مع هؤلاء المؤيدين، لكننا نخطو خطوة جديدة بأن نضيف أمرين:

أ‌- ليس حتمياً أن يكون هذا «الإيقاع» منتظماً أو نظاماً يمكن تعيينه أو تقنينه أو الإمساك به، كما يطلب بعض كبار خصوم قصيدة النثر.

ب‌ - بل ليس من الحتم المحتَّم أن يوجد الإيقاع من الأساس (خفياً كان أو ظاهراً، منتظماً كان أو غير منتظم)، فمن الممكن أن نقابل نصاً هو شعر من صميم الشعر، من دون أن يكون فيه إيقاع. وقد مرت بنا في مسار القصيدة العربية – من قديمها إلى حديثها – نصوص شعرية بامتياز، وهي خالية من «الإيقاع». وعلى العكس من ذلك: يمكن قصيدة أن تكون محتوية على كل بنود أو معايير الشعر (من وزن وقافية وصورة ولغة ومجاز وشعور ذاتي وتعبير عن الجماعة) وينقصها شيء واحد: هو الشعر نفسه. وما هذا الشعر نفسه؟ الشعر ليس في «تجمع» هذه العناصر أو الاعتقاد انه الإكسير الخفي الذي يعطي هذه العناصر معناها الحق ووجودها الرفيع، الإكسير الذي من دونه تكون هذه العناصر مجرد أدوات، ومن دونه لا يقوم شعر. ولكن بحضوره – وحده – من دون هذه العناصر – يقوم شعر.

ما هو هذا الإكسير؟ «لا تسألوني ما اسمه حبيبي. أخشى عليكم ضوعه الطيوب». قصيدة النثر فيها رديء كثير. نعم. فيها رديء كثير.

ولكن كل تجربة وكل تيار وكل مدرسة شعرية فيها رديء كثير، وجيد قليل.

قصيدة العمود فيها رديء كثير وجيد قليل، وقصيدة التفعيلة فيها رديء كثير وجيد قليل. وهكذا: كل شعر. والشاهد أن خصوم قصيدة النثر لا يستشهدون – في حملتهم عليها – بنماذج منها، وإذا استشهدوا فإنما يستشهدون بالنماذج الضعيفة (لا بالنماذج القوية) من قصيدة النثر.

وعندي أن هذه «فِعْلَةٌ» تفتقر إلى بعض العدل وبعض النزاهة وبعض الأمانة. وإذا اتفقنا على أن كل شعر فيه رديئه وجيده، فمعنى ذلك أن نوع القصيدة في ذاته (عمود أو تفعيلة أو نثر) لا يضمن تلقائياً جودتها. المحك، إذاً، ليس مرهوناً بـ «شعرية» النوع، وإنما مرهون بشعرية الشاعر.

قصيدة النثر لا تنفي قصيدة العمود ولا تنفي قصيدة التفعيلة، وكذلك لا ينبغي لروّاد العمود أو لرواد التفعيلة أن ينفوا قصيدة النثر وعلى وجه الخصوص: لا ينبغي لرواد قصيدة التفعيلة (شعراء ونقاداً) أن يقفوا في وجه تطور الشعر بنفي أو إقصاء أو «استنقاص» التجارب الجديدة، كما فعل رواد العمود التقليديون معهم منذ نصف قرن. ليس ثمة أحد يمسك «عصا المارشالية» في الشعر أو «فصل المقال» فيه. كما أن النفي والإقصاء عمل «الفاشيين» الواحديين، ونحن نربأ بروادنا أن يكونوا فاشيين واحديين، بينما الإيمان بالتنوع والتعدد والتجدد عمل الرحيبين الديموقراطيين المسؤولين. وروادنا رحيبون ديموقراطيون مسؤولون، أو نأمل أن يكونوا رحيبين ديموقراطيين مسؤولين. ولا يليق بنا أن نقع في ذلك التناقض الحاد.

ندعو في السياسة والاجتماع إلى التنوع والتعدد وكسر احتكار الحزب الواحد أو الطبقة الواحدة، بينما نتنكر لذلك في الإبداع والشعر. وإذا كان القدماء قالوا «الشعر صعبٌ وطويل سُلَّمُه»، فإننا – نحن المعاصرين – ينبغي أن نقول «الشعر كثير، وعديدة سلالمه». ألم نقل ذات يوم «الحداثة أخت التسامح»؟


عن صحيفة الحياة

جابر عصفور في مراياه المتجاورة

جابر عصفور في مراياه المتجاورة
التاريخ: Friday, July 1


حلمي سالم /
*
شاعر مصري:-

«لخولة أطلال ببرقة ثهمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد». هذا هو مطلع معلقة طرفة بن العبد التي كان جابر عصفور يدرسنا اياها في حصة الأدب العربي، نحن طلاب السنة الأولى في كلية الآداب - جامعة القاهرة عام 1970. ولا تزال ترن في سمعي - بعد هذه العقود الطويلة – نبرات صوته الناصعة القوية، بلكنتها الفريدة التي ميزت أهل مدينة المحلة الكبرى، في قلب دلتا مصر.
كان الرجل حينذاك معيداً في الكلية، حاصلاً على الماجستير قبل عام، ويعد للدكتوراه التي حصل عليها بعد ثلاثة أعوام (1973) في موضوع «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي»، وقد صدرت مطبوعة عام 1974. وبين تلك اللحظات البعيدة واللحظة التي فاز فيها جابر عصفور بجائزة الدولة التقديرية، قبل أيام قليلة، سنوات طويلة من الجد والكدح والإنتاج والإسهام المرموق. لقد تأخرت عليه الجائزة التقديرية طويلاً، بسبب موقعه في قيادة المجلس الأعلى للثقافة، الذي هو الهيئة التي تنظم جوائز الدولة وتعلنها. وما إن ترك المجلس أخيراً حتى هرولت إليه الجائزة التقديرية. ملمحان رئيسان في جابر عصفور: الأول هو الناقد، والثاني هو المنشِّط الثقافي (بعمله في قيادة المجلس الأعلى للثقافة). وهنا، سأخصص حديثي عن الملمح الأول: الناقد. لعل الاسهام النقدي البارز لجابر عصفور ينهض على خمسة أركان أساسية:-
**
الأول: هو خيط من الرؤية الماركسية للنقد. فناقدنا استوعب جيداً ما سمي في مرحلة من المراحل «علم الجمال الماركسي». لكن المنظور الماركسي للنقد عند عصفور متخلص من «الدوغما» العنيفة التي روّجها نقاد كثيرون، في صورة جافة متعسفة سماها أصحابها «الواقعية الاشتراكية». منظور عصفور أرحب وأكثر سعة من هذا الفهم الحديدي الذي يعلي من «البطل الايجابي» ويدين اليأس أو القنوط في الأدب، ويبحث عن «الفجر المشرق المقبل» في كل معنى أدبي. إن منظوره أقرب إلى منظور روجيه غارودي في «ماركسية القرن العشرين» الذي أدخل تحت إهاب الواقعية الاشتراكية كتّاباً مثل سان جون بيرس وكافكا ورسامين مثل بيكاسو، وهو الأقرب كذلك إلى منظور تيري ايغلتون الذي لا يحتقر الشكل الفني فيراه مجرد حامل للمضمون، بل يعلي من شأن الشكل الفني حتى يراه - هو ذاته - نوعاً من الأيديولوجيا أو المضمون أو الفكر. وتجلى ذلك في ترجمة كتاب «الماركسية والنقد الأدبي». وقد شن عصفور - من خلال هذا المنظور الرحب للفهم الماركسي للأدب - هجمات ضارية على «النقد الاشتراكي» الضيق، الذي رأى أنه زدانوفي (بائد) وفلول من بقايا النظرة الستالينية للحياة والفكر والمجتمع.
**
الثاني: هو الخيط البنيوي، إذ اهتم ناقدنا بهذا الفكر وبأعلامه الكبار ومدارسه المتنوعة (شتراوس، ألتوسير، ريكور، جاك لاكان، رولان بارت، ميشيل فوكو). فقدم للحياة الثقافية ترجمته الرائدة لكتاب «عصر البنيوية» (1985) تأليف إديث كريزويل، متعرضاً لشتراوس أبي البنيوية، وللصلة بين الماركسية والبنيوية وبين التأويل والبنيوية، وللتحليل النفسي البنيوي، والعلاقة بين البنيوية والمعرفة.لكن ناقدنا في اتخاذه هذا الخيط البنيوي جزءاً من نسيج عمله النقدي كان يقظاً للثغرات الكبرى التي تكتنف هذه البنيوية (مما أشارت إليه كاتبة الكتاب) من مثل تحول البنيوية نفسها إلى «أيديولوجيا» لتصبح بمثابة وعي تبريري أتاح لمعتنقيه تجنب مواجهة المشكلات السياسية الحاسمة وشغلهم بالبحث عن أبنية كلية عميقة تكشف عن ميتافيزيقا خالصة.ومن مثل أنها تتيح لأتباعها فراراً فكرياً في مواجهة النظريتين السابقتين: الوجودية، والماركسية، ومن مثل: تحولها هي نفسها إلى نزعة متعالية تلغي التاريخ وتغترب بالإنسان في سجون «النسق» أو «البنية» أو «النظام». استفاد جابر عصفور من البنيوية في جوهرها الإيجابي بصفتها «محاولة منهجية للكشف عن الأبنية الكلية، العميقة التي تتجلى في أنظمة القرابة والأنسبة الاجتماعية الكبرى وغيرها من الآفاق التي تحرك السلوك الإنساني»، لكنه ذوبها في عمله هو: عمل الناقد الذي يكشف عن سياقات النص الداخلية، وعن السياقات المحيطة (اجتماعياً وثقافياً وجمالياً) التي أنتجت النص نفسه، في جدلية مضفورة واحدة. وأظن أن الأساس الواسع السابق من خيط علم الجمال الماركسي، في صورته المرنة الرحبة، هو الذي جعل ناقدنا يستفيد من هذا المنهج البنيوي الجوهري الكاشف من دون أن يقع في «النسق البنيوي المغلق»، كما أظن أن استفادته من المنهج البنيوي الكاشف للأبنية الكلية العميقة للنشاط الإنساني كانت أحد العوامل التي أفضت بناقدنا إلى الاتجاه للنقد الثقافي.
**
الثالث: إذاً، هو «خيط النقد الثقافي» الذي يقوم على «فحص النص» وفحص «تاريخ أو تاريخية النص»، وفحص «السياق» الاجتماعي والفلسفي والطبقي والثقافي الذي يتحرك فيه النص. وهو النقد الذي يستمد وجوده من «الأواني المستطرقة» بين علم الجمال وعلم التاريخ وعلم الأنثروبولوجيا وعلم اجتماع الأدب. ومن البديهي أن يكون اتجاه عصفور إلى النقد الثقافي نتيجة للتمازج الحي بين أرضية علم الجمال الماركسي الواسعة السابقة وبين الجوهر المفيد الصحي للبنيوية الكاشفة عن الأنساق الكلية من ناحية، ونتيجة لاستهدائه بعميد الأدب العربي طه حسين الذي قدم محاولات مبكرة في هذا السبيل حين نظر الى النص في إطار البيئة الاجتماعية والثقافية والنفسية المحيطة بالنص وصاحب النص، من ناحية ثانية. ومعروف أن عصفور قدم دراسة ضافية عن طه حسين في كتاب «المرايا المتجاورة»، ونتيجة للنظرة الشمولية للنقد عند عصفور التي رافقته منذ البدء، وهي النظرة التي سعت إلى تجاوز الأحاديات النقدية السابقة والراهنة: أحادية النظر المغلق إلى النص وحده، وأحادية النظر إلى المبدع وحده، وأحادية النظر المغلق الى الواقع المحيط وحده، من ناحية أخيرة.
**
الرابع: هو وضع القدمين راسختين في التراث النقدي العربي، ليكون أرضاً تأسيسية لكل ما سبق «الرؤية التقدمية في الأدب، الاستهلام البنيوي، النقد الثقافي الشامل»، حتى لا تكون هذه العناصر الثلاثة السابقة معلقة في هواء المطلق. على أن وقفة عصفور على أرض التراث النقدي لم تكن وقفة «الاندراج» في التراث القديم، التي ترى أن كل شيء قد تم في الماضي وأن الزمن الجميل هو الذي فات، كما لم تكن وقفة «الانخلاع» عن ذلك التراث، التي ترى أن كل ماض تخلف منها وعقم وخراب. كان منظور ناقدنا في الموقف من التراث، إذاً، منظوراً «نقدياً» لا ينزلق إل‍ى «اغتراب» الغرق الكلي في الماضوية، ولا ينزلق إلى «اغتراب» نفي الماضي نفياً عدمياً. مدار هذه النظرة الناقدة هو إضاءة الجوانب الحية العقلانية الدافعة الى الأمام من التراث وتنحية أو نقد أو نقض الجوانب المتكلسة السلفية المعيقة فيه (هكذا فعل عصفور في: الصورة الفنية، مفهوم الشعر، قراءة التراث النقدي، استعادة الماضي، ذاكرة للشعر.
**
الخامس: هو مد النظر إلى تحولات او تغيرات العصر، ليكون أرضاً تأسيسية أخرى لكل ما سبق (الرؤية التقدمية في النقد، الاستلهام البنيوي، النقد الثقافي الشامل، أرضية التراث العربي)، فإذا كان الوقوف «النقدي» على أرضية التراث القديم ضرورة الناقد الأصيل، فإن مواكبة حداثة العصر - بنظرياته المتحركة المتجددة - ضرورة كذلك للناقد الذي يريد أن يكون ابن لحظته التاريخية (يتجلى ذلك في كتب مثل: النظرية الأدبية العاصرة، الخيال الأسلوب الحداثة، نظريات معاصرة، رؤى العالم). إن هذه الأركان الخمسة التي يقوم عليها المسعى النقدي لجابر عصفور، هي أركان متصلة متواصلة متجادلة، لا متفاصلة متفرقة متبعثرة. إن كل ركن من هذه الأركان الخمسة يمكن أن يصنع «ناقداً» جيداً، لكن حضور هذه الأركان الخمسة مجتمعة متجادلة متكاملة هو ما يصنع الناقد الذي نعده علامة فارقة.هنا أريد أن أشير الى ثلاث إشارات سريعة:-
1-
إن التجوال النقدي لعصفور في التراث العربي، كشف له – ولنا – «تيمة» السجال والصراع في هذا التراث القديم بين بلاغتين: بلاغة القامعين وبلاغة المقموعين. تتصف بلاغة القامعين بالاستعلاء وسيادة الأوامر والنواهي واستخدام اللغة السمادية في إخضاع الآخرين، والاكتفاء بالذات، والخطاب الجمعي، والفخامة، والمطلقات، وتتصف «بلاغة المقموعين» بسيادة الأسئلة واستخدام لغة الأرض والمعاش والحياة الجارية، وبالرمز والتقية والثورية والحكائية وإعمال العقل وإعادة النظر في المسلّمات.
2-
إن اتجاه عصفور إلى الكتابات الفكرية التنويرية راجع الى روحه المتفاعلة التي لم تكتف بدور الناقد الأدبي، بل رأت توسيع دائرة التأثير والفعل الى الفكر والحياة والمجتمع «وهذا هو الروح الجامعي الحق، الذي أدته الجامعة المصرية في عقود سابقة حيث لم يقتصر دورها على العملية التعليمية فحسب، بل بسطته إلى المساهمة في تطوير المجتمع. وراجع الى أن اهتمامه بالناقد الثقافي الشامل أفضى به – كبوابة طبيعية – إلى ضرورة الإسهام الفكري التنويري، من حيث إدراكه أن النص «واقعة» أدبية تقع ضمن سياق أشمل منها اجتماعياً وتاريخياً وجغرافياً، وراجع إلى عمله في قيادة المجلس الأعلى للثقافة في بداية تسعينات القرن العشــرين، وهو العمل الذي زج به واقعياً وميدانياً في خــضم حركة الثقافة العربية المــوارة والمنقسمة بين التخلف والتقدم، فكان عليه أن يضيف دور «المثقف» – بكسر القاف المشددة – إلى دور «المثقف» – بفتح القاف المشددة – إلى جهده النظري والتطبيقي (يتجلى ذلك في أعمال: هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، ضد التعصب، مواجهة الإرهاب، مقالات غاضبة، جامعة دينــها الــعلم، نقد ثقافة التخلف).
3-
في حياتنا العربية استبدادان: استبداد باسم الدين، واستبداد باسم السلطة السياسية، وقد درج بعض المثقفين على الاقتصار على نقد استبداد السلطة السياسية تحاشياً لعسف الجماعات الدينية، ودرج بعض المثقفين الآخرين على الاقتصار على نقد قمع الجماعات الدينية المتطرفة تحاشياً لعسف السلطة السياسية، نفر قليل قليل من المثقفين هو الذي نقد الاستبدادين معاً، وناقدنا من هذا النفر القليل.
4-
لقد فضح عصفور – كما فعل هذا النفر القليل – «القنطرة» الخفية حيناً والمعلنة حيناً، بين الاستبدادين، فالاستبداد السياسي يتقوى بالاستبداد باسم الدين، والاستبداد باسم الدين يتقوى بالاستبداد السياسي، كما أوضح الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، فكأن هناك حلفاً – ضمنياً أو صريحاً – بين «الدولة التسلطية»، و«الجماعة الدينية التسلطية»، وما قد يظهر على السطح أحياناً من خلافات أو نزاعات بين التسلطين ليس سوى نزاع على الملكية: ملكية الناس باسم أمن الوطن، أو ملكية الناس باسم أمن السماء. سنتغاضى – ونحن نهنئ جابـر عصفور بجائزة الدولة التقديرية – عن خذلانـه للشعراء وهو يعلن ويروج نظريته القائلة ان الزمن هو «زمن الرواية»، وعن قوله ان ليس في مصر شعراء بعد أمل دنقل، ونـقول له: «اللي تـشوفه يا جميل»!